يطلب إليه أن يخبر الخليفة بمطامع ابن رائق في الشام ويستطلع رأيه في هذا الامر. غير أن الخليفة العباسي لم يكن إذ ذاك لديه من النفوذ بحيث يستطيع أن يتخذ قرارا يلزم أحد الفريقين باتباعه، لذلك استقر رأى الاخشيد على إعداد العدة لمحاربة محمد بن رائق، فخرج على رأس جيشه في أوائل سنة 328 ه، ودارت بينه وبين ابن رائق معركة في العريش، فمضى ابن رائق منهزما إلى الرملة، ثم عقد الصلح بين الفريقين على أن يحكم ابن رائق الولايات الشامية شمالي الرملة وعلى أن يدفع الاخشيد إليه جزية سنوية قدرها مائة وأربعون ألف دينار. ومن المحتمل أن الاخشيد اضطر إلى قبول الصلح على هذه الصورة رغم ما أحرزه من نصر خشية أن تواصل الخلافة العباسية الحملات عليه ورغبة في إعداد نفسه لدرء الخطر الفاطمي الذي كان يهدده من ناحية حدود مصر الغربية.
استطاع الاخشيد أن يعيد بلاد الشام إلى حوزته من غير حرب بعد وفاة ابن رائق، وبذلك استقر حكمه في هذه البلاد وأصبح من القوة بحيث استطاع أن يحصل على تقليد في بداية سنة 333 ه من الخليفة المتقى بولاية مصر وحق توريث إمارتها لأبنائه من بعده، كما أخذ تقليدا من الخليفة المستكفي في جمادى الآخرة من هذه السنة، أقره فيه على ولاية مصر والشام.
لم يحتفظ الإخشيد فترة طويلة بسلطانه على جميع بلاد الشام ويرجع السبب في ذلك إلى تطلع الحمدانيين (1) إلى انتزاع هذه البلاد من أيدي الإخشيديين، فلما أسندت ولاية حلب إلى أبي الفتح عثمان بن سعيد الكلابي حقد عليه أهل بيته من الكلابيين وراسلوا سيف الدولة بن حمدان ليسلموا إليه حلب. وكان سيف الدولة قد طلب من أخيه ناصر الدولة أن يوليه إحدى الولايات، فقال له ناصر الدولة: الشام أمامك وما فيه أحد يمنعك منه. فلما وقف سيف الدولة على الخلاف القائم بين الكلابيين وأيقن من عجز أبي الفتح والي حلب عن مقاومته، سار في جيشه الصغير قاصدا حلب، فقابله إخوة أبي الفتح الكلابي عند نهر الفرات وأعلنوا ولاءهم له، كما أن أبا الفتح نفسه ما لبث أن لقي سيف الدولة ودخل في طاعته، وبذلك تيسر لسيف الدولة الاستيلاء على حلب وأصبح أميرا عليها منذ سنة 333 ه، وبدأ عمله بإقامة الخطبة للخليفة العباسي المكتفي ولأخيه ناصر الدولة ولنفسه.
لما وصل إلى محمد بن طغج الإخشيد نبأ دخول سيف الدولة حلب وإقامته الخطبة للخليفة العباسي، كتب إلى الخليفة بذلك، فأرسل إليه وإلى ابنه أونوجور خلعا دليلا على تأييده له. على أن سيف الدولة ما لبث أن كشف عن نواياه بعد أن استقرت له الأمور في حلب، فسار إلى حمص يريد دمشق. ولما بلغ الإخشيد أن سيف الدولة عزم على بسط سلطانه على دمشق، أرسل إلى الشام جيشا التقى بسيف الدولة عند بلدة الرستن (2)، فكان النصر حليف الحمدانيين، وتقهقر الجيش الأخشيدي إلى دمشق، ثم خرج منها قاصدا الرملة في طريق عودته إلى مصر، وسار سيف الدولة في أثر الجند المصريين يريد دمشق، وكتب إلى أهلها كتابا، قرئ على منبر المسجد الأموي. وقد تضمن هذا الكتاب حرصه على صيانة أرواحهم والمحافظة على أموالهم.
استقر رأى محمد بن طغج الاخشيد بعد أن وصلته نسخة من كتاب سيف الدولة على أن يسير بنفسه لمحاربته، فاستخلف على مصر ابنه أونوجور وسار على رأس جيش كبير إلى دمشق، والتقى الفريقان في قنسرين. وكان النصر في البداية حليف سيف الدولة، غير أن هذا النصر ما لبث أن انقلب إلى هزيمة، فدخل الاخشيد حلب حاضرة الحمدانيين واسترد دمشق.
وعلى الرغم من انتصار الاخشيد، فإنه رأى أن يصالح الحمدانيين، وتم الصلح بين الأميرين في ربيع الأول سنة 334 ه، على أن يكون لسيف الدولة حلب وما يليها من بلاد الشام شمالا، وأن يكون للإخشيد دمشق وأعمالها، كما تضمن الصلح أن يدفع الاخشيد لسيف الدولة جزية سنوية.
ومن المرجح أن الاخشيد سعى إلى عقد الصلح مع سيف الدولة لأنه كان يعتقد أن انتصاره عليه لم يكن حاسما وأن الحرب بينهما ستظل قائمة إلى أن يتم النصر لسيف الدولة، كما أنه كان على يقين من أن النزاع بينه وبين الحمدانيين على الشام سينتهي بانتصارهم عليه لأن هذا الإقليم يعد المجال الحيوي لاتساع سلطانهم، وفضلا عن ذلك فإن الإخشيد كان يرمي من إبرام الصلح مع سيف الدولة على هذه الصورة أن يبقي الدولة الحمدانية حصنا منيعا بينه وبين البيزنطيين يكفيه مؤونة التعرض لهجومهم من وقت لآخر.
لما خلت دمشق من حامية قوية ترد غارة الحمدانيين على أثر وفاة محمد بن طغج الاخشيد وعودة جنده من الشام إلى مصر، انتهز هذه الفرصة سيف الدولة الحمداني واتجه إليها بجيشه، فسقطت في يده بعد أن استسلم إليه حاكمها الإخشيدي، ولم يكتف بذلك، بل عمد إلى مطالبة أهلها بودائع الإخشيد، فكاتبوا كافورا يستدعونه من مصر، فجاءهم بصحبة سيده أونوجور، ثم دار القتال بين الفريقين، فكان النصر حليف المصريين وتقهقر سيف الدولة إلى دمشق فحمص حيث أعاد تنظيم صفوفه، وجمع جيشا كبيرا من الأعراب هاجم به الجنود المصرية شمالي دمشق، فلحقت به الهزيمة وطارده الإخشيديون إلى حلب، فهرب إلى الرقة، ثم بدأت المفاوضات بين الحمدانيين والإخشيديين، وانتهت إلى عقد معاهدة الصلح بنفس الشروط التي كانت بين الإخشيديين وسيف الدولة ما عدا الجزية، فإن الإخشيديين لم يقبلوا دفعها وكان من نتائج هذا الصلح أن ساد الصفاء بين الحمدانيين والإخشيديين (انتهى).
وننشر هنا كلمة للكاتب إبراهيم ونوس علق بها على كلمة لكاتب زعم أن