سير أعلام النبلاء - الذهبي - ج ١ - الصفحة ٥٢٩
وساجدا إلى الاحد الآخر. فلما أصبحنا قال: خذ جرتك هذه وانطلق.
فخرجت أتبعه حتى انتهينا إلى الصخرة، وإذا هم قد خرجوا من تلك الجبال ينتظرون خروجه، فعدوا، وعاد في حديثه وقال: الزموا هذا الدين، ولا تفرقوا، واذكروا الله، واعلموا أن عيسى كان عبد الله أنعم على، فقالوا: كيف وجدت هذا الغلام؟ فأثنى علي. وإذا خبز كثير وماء كثير، فأخذوا ما يكفيهم وفعلت.
فتفرقوا في تلك الجبال، ورجعنا إلى الكهف. فلبثنا ما شاء الله يخرج كل أحد ويحفون به. فخرج يوما فحمد الله تعالى ووعظهم، ثم قال: يا هؤلاء! إنه قد كبر سني، ورق عظمي، واقترب أجلي، وإنه لا عهد لي بهذا البيت مذ كذا وكذا، ولا بد من إتيانه، فاستوصوا بهذا الغلام خيرا، فإني رأيته لا بأس به.
فجزع القوم، وقالوا: أنت كبير، وأنت وحدك، فلا نأمن أن يصيبك الشئ ولسنا عندك، ما أحوج ما كنا إليك. قال: لا تراجعوني، فقلت: ما أنا بمفارقك. قال: يا سلمان! قد رأيت حالي وما كنت عليه، وليس هذا كذلك، أنا أمشي أصوم النهار، وأقوم الليل، ولا أستطيع أن أحمل معي زادا ولا غيره، وأنت لا تقدر على هذا. قلت: ما أنا بمفارقك. قال: أنت أعلم.
وبكوا وودعوه، واتبعته يذكر الله ولا يلتفت، ولا يقف على شئ، حتى إذا أمسينا قال: صل أنت، ونم، وقم، وكل، واشرب. ثم قام يصلي حتى إذا انتهينا إلى بيت المقدس، وكان لا يرفع طرفه إلى السماء، فإذا على باب المسجد مقعد، فقال: يا عبد الله! قد ترى حالي، فتصدق علي بشئ فلم يلتفت إليه، ودخل المسجد. فجعل يتبع أمكنة يصلي فيها. ثم قال: يا سلمان! لم أنم مذ كذا وكذا، فإن أنت جلعت أن توقظني إذا بلغ الظل مكان كذا وكذا نمت، فإني أحب أن أنام في هذا المسجد، وإلا لم أنم. قلت:
فإني أفعل. فنام، فقلت في نفسي: هذا لم ينم منذ كذا وكذا لادعنه ينام.
(٥٢٩)
مفاتيح البحث: الصّلاة (1)، السجود (2)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 524 525 526 527 528 529 530 531 532 533 534 ... » »»