الفصول الغروية في الأصول الفقهية - الشيخ محمد حسين الحائري - الصفحة ١٨٣
الجواب إلا أن الاستدلال لا يخلو عن شبهة مصادرة لان عدم توجه الخطاب إلى المعدوم في قوة عدم تناوله له انتهى وفيه نظر لان مقصود الدافع في الرد أن الاستدلال إنما هو بعدم توجه الخطاب إلى الصبي والمجنون ونحوهما على عدم توجهه إلى المعدوم وأنه ينافي أن يكون الخطاب متناولا له لفظا على ما وقع في الجواب و ظاهر أن هذا ليس من المصادرة في شئ و إنما يلزم المصادرة ما لو أراد أن الاستدلال بعدم توجه الخطاب إلى المعدوم على عدم تناوله له لكنه خلاف الظاهر من كلام الدافع كما يرشد إليه أنه جمع الضمير في المستدل به وأفرده في المستدل عليه وإلا لكان عليه إفراده في الموضعين وكأن الناظر غفل عن ذلك وحمل كلامه على الوجه الثاني نعم يرد على الدافع أن مقصود المجيب على ما يظهر من كلامه أن لا ملازمة بين أن يعم الخطاب لفظا للصبي والمجنون و نحوهما ولا يعم التكليف المستفاد منه نظرا إلى انتفاء الشرط في حقهم لظهور أن القائل بعموم الخطاب للمعدوم قائل بعمومه للصبي و المجنون أيضا وحيث إن المستدل لم يأت عليه بحجة بل اقتصر على مجرد الدعوى كان المنع كافيا في الجواب ودعوى الدافع أن الاحتجاج بعدم توجه الخطاب لا بعدم توجه التكليف لا يجدي في ذلك بل فيه إشعار بذهوله عن مقصود المجيب والتحقيق أن المجيب لم يقصد أن الاستدلال بعدم التكليف وإنما عنى أن الأدلة إنما تنفي تعلق التكليف بهم لا تعلق الخطاب ومن هنا يظهر أيضا ضعف ما أورده بعض الأفاضل عليه من أنه إنما يتجه لو حرر النزاع في شمول الخطاب للمعدوم وضعا وعدمه وأما لو حرر في دخوله في المراد وقرر الدليل بأنهم لم يدخلوا في المراد فكذلك المعدوم فلا إذ لا فائدة في تناول الصيغة لهم بعد تسليم خروجهم عن المراد إذ لا يكون ذلك منعا لحكم الأصل ولا للأولوية فإن منشأه عدم الفرق بين الخطاب وبين الحكم المستفاد من الخطاب فإنه قد يختلف متعلقهما كما في الامر الفائت وقد يتحد مع اتحاد الزمان ولو عرفا كما في تحرك أو اختلافه كما في قولك حج إن استطعت مع تأخر زمن الاستطاعة عن زمن الخطاب فكون الخطاب منجزا لا ينافي كون الحكم المستفاد منه معلقا على أمر غير حاصل فمقصود المجيب أن الثابت في حق الصبي و المجنون عدم التكليف لا عدم الخطاب فيرجع إلى منع الأصل احتجت الحنابلة أيضا بوجهين الأول لو لم يكن الرسول مخاطبا لمن بعده لم يكن مرسلا إليهم والتالي باطل بالاتفاق بيان الملازمة أنه لا لا معنى لارساله إلا أنه أمر بتبليغ الاحكام ولا تبليغ بغير هذه العمومات وهي لا تتناولهم الثاني أن علماء الأمصار لم يزالوا يحتجون على أهل الاعصار بتلك الخطابات وهو إجماع على تتناولها لهم وأجيب عن الأول بأنا لا نسلم أن التبليغ منحصر في العمومات التي هي خطاب المشافهة إذ التبليغ لا يتعين فيه المشافهة بل كما يحصل للمشافهين بالمشافهة كذلك يحصل لغيرهم بنصب الدلائل و الامارات الدالة على مشاركتهم لهم في الحكم وعن الثاني بأنه لا يقتضي أن يكون ذلك لعلمهم بتوجه الخطاب إليهم بل لعلمهم بثبوت حكمهم عليهم للأدلة الدالة على اشتراك التكليف بين الحاضرين وغيرهم و أورد التفتازاني على الجوابين سؤالا حاصله أن الأدلة الأخرى أيضا من قبيل الخطابات أو ما يرجع دليل حجيته إليها كالاجماع فلا يصح الاحتجاج بها إذ التقدير أنها لا تتناول المعدومين وأجاب بأنه يجوز أن يثبت ذلك بإجماع أو تنصيص على ثبوت الحكم أو حجية الأدلة في حق الموجودين والمعدومين بطريق آخر غير تناول الخطاب لهم كما في قوله عليه السلام الجهاد ماض إلى يوم القيامة ولا يجتمع أمتي على الضلال انتهى والأظهر في الجواب أن يقال ثبت الحكم في حق المعدومين بطريق إخبار الموجودين وإعلامهم بتعلق الاحكام بهم عند وجودهم واستكمالهم لشرائط التكليف فإن تلك الأخبار تكشف عن حصول مفاد الخطاب عند الوجود واستكمال الشرائط إذ لا نعني بالحكم إلا الأثر اللازم من الخطاب فظهر أن الحجتين المذكورتين لا تنهضان بإثبات العموم سواء أريد به عموم الخطاب الحقيقي أو أريد به إرادة العموم من ألفاظها الواردة في الشرع وقد يتشبث على الاثبات بوجوه أخر منها قوله تعالى كن عند إرادة الايجاد كما دل عليه الآيات فإن خطابه هذا يتعلق بالمعدوم وإلا لكان تحصيلا للحاصل وهو بمكان من الوهن والضعف إذ ليس المراد به صدور هذه اللفظة وإلا لتسلسل بل هو مجاز في الإرادة الحقية والمشية كما يدل عليه العقل والنقل وكفاك في ذلك قول الإمام ومولى الأنام زين العابدين وسيد الساجدين عليه السلام في دعائه المعروف ومضت على إرادتك الأشياء فهي بمشيتك دون قولك مؤتمرة وبإرادتك دون نهيك منزجرة إلى غير ذلك ولو سلم فليس المراد به الخطاب لان المعدوم غير قادر على الكون فطلبه منه محال على أن الامر المذكور يتساوى بالنسبة إلى ذوي العقول وغيرهم من الجمادات والاعراض فيلزم عليه التزام جواز خطابه تعالى باللفظ للجمادات والاعراض حتى المعدومة ومنها مطلقا وهو مما يشهد صريح العقل بقبحه وفساده ومنها أن دليل المنع على تقدير صحته لا يجري في خطابه تعالى لان الموجودين في زمن الخطاب والمعدومين عنده سواء وهذا أيضا ضعيف لأنه إن أريد أن الخطابات المتعلقة بالمكلفين في أزمنة وجودهم مع ما بينهما من الاختلاف بحسب التقدم والتأخر الزمانيين إن قيست إليه تعالى كانت على حد سواء فهذا مما لا ينافي المقصود بل ربما كان اعترافا به وإن أريد أن نسبة المكلفين إلى خطابه تعالى متساوية وإن اختلف أزمنة وجودهم فغير معقول بالنسبة إلى ما هو محل البحث من الخطاب اللفظي لأنه زماني غير مستمر فكيف يتساوى نسبتهم إليه ولو التزم باستمراره لزم أن يكون كل فرد من آحاد المكلفين مخاطبا بالأحكام في كل جز من أجزاء الزمان وهذا في غير زمان وجوده فاسد لما مر من أن الخطاب أمر نسبي يمتنع تحققه في الخارج بدون وجود المخاطب على أن هذا غير معقول بعد حصول الامتثال أو انعدام المكلف للزوم تحصيل الحاصل على الأول و التكليف بالمحال على الثاني وأجيب أيضا بأن خطابه تعالى لما كان مقرونا
(١٨٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 178 179 180 181 182 183 184 185 186 187 188 ... » »»