الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٣ - الصفحة ٩٦
ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا. ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا. فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا. وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا.
____________________
ومواشيهم لم يعدموا سقياهم. يريد ولقد صرفنا هذا القول بين الناس في القرآن وفي سائر الكتب والصحف التي أنزلت على الرسل عليهم السلام وهو ذكر إنشاء السحاب وإنزال القطر ليفكروا ويعتبروا ويعرفوا حق النعمة فيه ويشكروا (فأبى) أكثرهم إلا كفران النعمة وجحودها وقلة الاكتراث لها، وقيل صرفنا المطر بينهم في البلدان المختلفة والأوقات المتغايرة؟ وعلى الصفات المتفاوتة من وابل وطل وجود ورذاذ وديمة ورهام فأبوا إلا الكفور، وأن يقولوا مطرنا بنوء كذا ولا يذكروا صنع الله ورحمته. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ما من عام أقل مطرا من عام، ولكن الله قسم ذلك بين عباده على ما شاء، وتلا هذه الآية. وروى أن الملائكة يعرفون عدد المطر ومقداره. في كل عام لأنه لا يختلف، ولكن تختلف فيه البلاد، وينتزع من ههنا جواب في تنكير البلدة والانعام والأناسي كأنه قال: لنحيى به بعض البلاد الميتة ونسقيه بعض الانعام والأناسي وذلك البعض كثير. فإن قلت:
هل يكفر من ينسب الأمطار إلى الأنواء؟ قلت: إن كان لا يراها إلا من الأنواء ويجحد أن تكون هي والأنواء من خلق الله فهو كافر، وإن كان يرى أن الله خالقها وقد نصب الأنواء دلائل وأمارات عليها لم يكفر. يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم (ولو شئنا) لخففنا عنك أعباء نذارة جميع القرى، و (لبعثنا في كل قرية) نبيا ينذرها وإنما قصرنا الامر عليك وعظمناك به وأجللناك وفضلناك على سائر الرسل فقابل ذلك بالتشدد والتصبر (فلا تطع الكافرين) فيما يريدونك عليه، وإنما أراد بهذا تهييجه وتهييج المؤمنين وتحريكهم. والضمير للقرآن أو لترك الطاعة الذي يدل عليه فلا تطع، والمراد أن الكفار يجدون ويجتهدون في توهين أمرك فقابلهم من جدك واجتهادك وعضك على نواجذك بما تغلبهم به وتعلوهم، وجعله جهادا كبيرا لما يحتمل فيه من المشاق العظام. ويجوز أن يرجع الضمير في به إلى ما دل عليه - ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا - من كونه نذير كافة القرى، لأنه لو بعث في كل قرية نذيرا لوجبت على كل نذير مجاهدة قريته، فاجتمعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك المجاهدات كلها فكبر جهاده من أجل ذلك وعظم فقال له (وجاهدهم) بسبب كونك نذير كافة القرى (جهادا كبيرا) جامعا لكل مجاهدة وسمى الماءين الكثيرين الواسعين بحرين، والفرات البليغ العذوبة حتى يضرب إلى الحلاوة والأجاج نقيضه. ومرجهما خلاهما متجاورين متلاصقين وهو بقدرته يفصل بينهما ويمنعهما التمازج وهذا من عظيم اقتداره وفى كلام بعضهم: وبحران أحدهما مع الاخر ممزوج وماء العذب منهما بالاجاج ممزوج (برزخا) حائلا من قدرته كقوله تعالى - بغير عمد ترونها - يريد بغير عمد مرئية وهو قدرته. وقرئ ملح على فعل، وقيل كأنه حذف من مالح تخفيفا كما قال: وصليانا بردا يريد باردا. فإن قلت: (وحجرا محجورا) ما معناه؟ قلت: هي الكلمة التي يقولها المتعوذ وقد فسرناها، وهى ههنا واقعة على سبيل المجاز كأن كل واحد من البحرين يتعوذ من صاحبه ويقول له حجرا محجورا كما قال - لا يبغيان - أي لا يبغي أحدهما على صاحبه بالممازجة، فانتفاء البغى ثمة كالتعوذ ههنا جعل كل واحد منهما في صورة الباغي على صاحبه فهو يتعوذ منه، وهى من أحسن الاستعارات وأشهدها على
(٩٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 ... » »»