عمدة القاري - العيني - ج ٢١ - الصفحة ٢٩١
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده على رؤوسهم: بل أنتم خالدون مخلدون لا يخلفنكم فيها أحد، فأنزل الله تعالى: * (وقالوا لن تمسنا إلا أياما معدودات) * (آل عمران: 24) الآية. قوله: (اخسؤا فيها) من خسأت الكلب إذا طردته وخسا الكلب بنفسه يتعدى ولا يتعدى. قوله: (إن كنت كذابا) هكذا رواية المستملي والسرخسي، وفي رواية غيرهما: إن كنت كاذبا. قوله: (وإن كنت نبيا لم يضرك) يعني: على الوجه المعهود من السم، وفي مرسل الزهري: أنها أكثرت السم في الكتف والذراع لأنه بلغها أن ذلك كان أحب الأعضاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتف فنهس منها، وفيه: فلما ازدرد لقمة قال: إن الشاة تخبرني، يعني أنها مسمومة، واختلفوا: هل قتلها النبي صلى الله عليه وسلم أو تركها؟ ووقع في حديث أنس رضي الله عنه فقيل: ألا تقتلها؟ قال: لا، ومن المستغرب قول ابن سحنون: أجمع أهل الحديث على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتلها، واختلف فيمن سم طعاما أو شرابا لرجل فمات منه، فذكر ابن المنذر عن الكوفيين أنه لا قصاص عليه وعلى عاقلته الدية، وقال مالك: إذا استكرهه فسقاه سما فقتله فعليه القود، وعن الشافعي: إذا سقاه سما غير مكره له ففيه قولان: أحدهما: أنه عليه القود، وهو أشبههما، وثانيهما: لا قود عليه، وهو آثم.
56 ((باب شرب السم والدواء به وبما يخاف منه والخبيث)) أي: هذا باب في بيان شرب السم إلى آخره، وأبهم الحكم اكتفاء بما يفهم من حديث الباب، وهو عدم جوازه لأنه يفضي إلى قتل نفسه فإن قلت: أخرج ابن أبي شيبة وغيره: أن خالد بن الوليد رضي الله عنه لما نزل الحيرة قيل له: احذر السم لا يسقيكه الأعاجم، فقال: ائتوني به، فأتوه به فأخذه بيده، ثم قال: بسم الله، واقتحمه فلم يضره. قلت: وقع هكذا كرامة لخالد فلا يتأسى به، ويؤكد عدم جوازه حديث أبي هريرة، رضي الله عنه قوله: (والدواء به) أي: وفي بيان التداوي به، وهو أيضا لا يجوز لقوله صلى الله عليه وسلم إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم. قوله: (وبما يخاف منه) عطف على الجار والمجرور أعني قوله: (به) وإنما جاز لإعادة الجار، وفي بعض النسخ: وما يخاف، بدون حرف الباء، فعلى هذا يكون عطفا على لفظ السم وهو بضم الياء على صيغة المجهول، وقال بعضهم: قال الكرماني: يجوز فتحه، قلت: لم يذكر الكرماني شيئا من ذلك، والمعنى بما يخاف به من الموت أو استمرار المرض. قوله: (والخبيث) أي: والدواء الخبيث ويقع هذا بوجهين: أحدهما: من جهة نجاسبته كالخمر ولحم الحيوان الذي لا يؤكل، والآخر: من جهة استقذاره، فتكون كراهته لإدخال المشقة على النفس، قاله الخطابي. وقد ورد النهي عن تناول الدواء الخبيث، أخرجه أبو داود والترمذي، وصححه ابن حبان.
5778 حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب حدثنا خالد بن الحارث حدثنا شعبة عن سليمان قال: سمعت ذكوان يحدث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيه خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن تحسى سما فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجاء بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا. (انظر الحديث: 1365).
هذا الحديث يوضح إبهام ما في الترجمة من الحكم، وهو وجه المطابقة بينهما.
وعبد الله بن عبد الوهاب أبو محمد الحجي البصري، مات في سنة ثمان وعشرين ومائتين، وخالد بن الحارث بن سليمان أبو عثمان البصري، وسليمان هو الأعمش، وذكوان بفتح الذال المعجمة أبو صالح الزيات السمان المديني.
والحديث أخرجه مسلم في الإيمان عن يحيى بن حبيب. وأخرجه الترمذي في الطب عن محمود بن غيلان. وأخرجه النسائي في الجنائز عن محمد بن عبد الأعلى.
قوله: (من تردى) أي: أسقط نفسه منه. وقال الكرماني: تردى إذا سقط في البئر. قوله: (ومن تحسى) بالمهملتين من باب التفعل بالتشديد، ومعناه: تجرع، وأصله من حسوت المرق حسوا، والحسوة بالضم الجرعة من الشراب بقدر ما يحسى مرة واحدة، وبالفتح المرة. قوله: (يجاء)، بفتح
(٢٩١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 286 287 288 289 290 291 292 293 294 295 296 ... » »»