عمدة القاري - العيني - ج ١١ - الصفحة ٢٧١
على البائع بالنقصان من الثمن لتعذر الرد، وفي رواية (الأسرار): لا يرجع، لأن اجتماع اللبن وجمعه لا يكون عيبا.
وأجابوا عن الحديث بأجوبة.
الأول: ما قاله محمد بن شجاع: إن هذا الحديث نسخه حديث: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فلما قطع صلى الله عليه وسلم بالفرقة الخيار ثبت بذلك أن لا خيار لأحد بعد ذلك إلا لمن استثناه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا، وهو قوله: (إلا بيع الخيار المجهول) ورده الطحاوي بأن الخيار المجهول في المصراة إنما هو خيار عيب، وخيار العيب لا تقطعه الفرقة.
الثاني: ما قاله عيسى بن أبان، كان ذلك في أول الإسلام حيث كانت العقوبات في الديون حتى نسخ الله سبحانه وتعالى الربا، فردت الأشياء المأخوذة إلى أمثالها.
الثالث: ما قاله ابن التين، ومن جملة ما رووا به حديث المصراة بالاضطراب، قال مرة: صاعا من تمر، ومرة: صاعا من طعام، ومرة مثل أو مثلي لبنها.
الرابع: أن الحديث، وإن وقع بنقل العدل الضابط عن مثله إلى قائله، لا بد في اعتباره أن يكون غير شاذ ولا معلول، وهذا معلول لأنه يخالف عموم الكتاب والسنة المشهورة، فيتوقف بها عن العمل بظاهره. أما عموم الكتاب فقوله تعالى: * (فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) * (البقرة: 491). وقوله: * (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم) * (النحل: 621). وأما الحديث فقوله، صلى الله عليه وسلم: (الخراج بالضمان)، رواه الترمذي من حديث ابن عباس، وصححه، ورواه الطحاوي من حديث عائشة، ويروى: (الغلة بالضمان)، والمراد بالخراج ما يحصل من غلة العين المبتاعة، عبدا كان أو أمة أو ملكا، وذلك أن يشتريه فيستعمله زمانا ثم يعثر منه على عيب قديم لم يطلعه البائع عليه، أو لم يعرفه، فله رد العين المبيعة وأخذ الثمن، ويكون للمشتري ما استعمله، لأن المبيع لو كان تلف في يده لكان من ضمانه، ولم يكن له على البائع شيء.
ثم أن هؤلاء قد زعموا أن رجلا لو اشترى شاة فحلبها ثم أصاب عيبا غير التحفيل والتصرية أنه يردها ويكون اللبن له، وكذلك لو اشترى جارية مثلا فولدت عنده ثم ردها على البائع لعيب وجد بها، يكون الولد له، قالوا: لأن ذلك من الخراج الذي جعله النبي، صلى الله عليه وسلم، للمشتري بالضمان، فإذا كان الأمر كذلك، فالصاع من التمر الذي يوجبه هؤلاء على مشتري المصراة إذا ردها على بايعها بسبب التصرية والتحفيل، لا يخلو إما أن يكون عوضا من جميع اللبن الذي احتلبه منها، كان بعضه في ضرعها وقت وقوع البيع، وحدث بعضه في ضرعها بعد البيع. وأما أن يكون عوضا عن اللبن الذي في ضرعها وقت وقوع البيع خاصة، فإن أرادوا الوجه الأول فقد ناقضوا أصلهم الذي جعلوا به اللبن والولد للمشتري بعد الرد بالعيب في الصورتين اللتين ذكرناهما، وذلك لأنهم جعلوا حكمهما كحكم الخراج الذي فعله النبي، صلى الله عليه وسلم، للمشتري بالضمان، وإن أرادوا به الوجه الثاني فقد جعلوا للبائع صاعا دينا بدين، وهذا غير جائز لا في قولهم ولا في قول غيرهم، وأي المعنيين أرادوا فهم فيه تاركون أصلا من أصولهم، وقد كان هؤلاء أولى بالقول بنسح الحكم في المصراة لكونهم يجعلون اللبن في حكم الخراج، وغيرهم لا يجعلون كذلك، فظهر من ذلك فساد كلامهم وفساد ما ذهبوا إليه. فإن قلت: لا نسلم أن يكون اللبن في حكم الخراج، لأن اللبن ليس بغلة وإنما كان محفلا فيها، فيلزم رده. قلت: هذا ممنوع، لأن الغلة هي الدخل الذي يحصل، وهي أعم من أن يكون لبنا أو غيره، وأيضا يلزمهم على هذا أن يردوا عوض اللبن إذا ردت المصراة بعيب آخر غير التصرية، ولم يقولوا به. فإن قلت: هذا حكم خاص في نفسه، وحديث: الخراج بالضمان، عام، والخاص يقضي على العام. قلت: هذا زعمك، وإنما الأصل ترجيح العام على الخاص في العمل به، ولهذا رجحنا قوله، صلى الله عليه وسلم، في الأرض: (ما أخرجت ففيه العشر)، على الخاص الوارد، بقوله: (ليس في الخضراوات صدقة، وليس فيما دون خمسة أوسق صدقة)، وأمثال ذلك كثيرة.
ويذكر عن أبي صالح ومجاهد والوليد بن رباح وموسى بن يسار عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم صاع تمر التعليق عن أبي صالح ذكوان الزيات، رواه مسلم، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن القاري عن سهيل عن أبيه أبي صالح عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من ابتاع شاة مصراة فهو فيها بالخيار ثلاث أيام، إن شاء أمسكها، وإن شاء ردها ورد معها صاعا من تمر). انتهى. وأحاديث المصراة على نوعين. أحدهما: مطلق عن ذكر مدة الخيار، وبه أخذت المالكية وحكموا فيها بالرد مطلقا. والآخر: منها: مقيد ذكر مدة الخيار كما في رواية مسلم
(٢٧١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 266 267 268 269 270 271 272 273 274 275 276 ... » »»