عمدة القاري - العيني - ج ٩ - الصفحة ٧٣
ذكر ما يستفاد منه: بظاهر الحديث المذكور أخذ أبو حنيفة، رضي الله تعالى عنه، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يقدر فيه مقدارا، فدل على وجوب الزكاة في كل ما يخرج من الأرض قل أو كثر. فإن قلت: هذا الحديث مجمل يفسره قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة). قلت: لا نسلم أنه مجمل، فإن المجمل ما لا يعرف المراد بصيغته لا بالتأمل ولا بغيره، وهذا الحديث عام فإن كلمة: ما، من ألفاظ العموم. فإن قلت: سلمنا أنه عام، ولكن الحديث المذكور خصصه؟ قلت: إجراء العام على عمومه أولى من التخصيص لأن فيه إخراج بعض ما تناوله العام أن يكون مرادا، ولو صلح هذا الحديث أن يكون مخصصا أو مفسرا لحديث الباب لصلح حديث ما عز أن يكون مخصصا أو مفسرا لحديث أنيس في الإقرار بالزنا، فحينئذ يحمل قوله صلى الله عليه وسلم على أن المراد بالصدقة هي الزكاة، وهي زكاة التجارة بقرينة عطفها على زكاة الإبل والورق، إذ الواجب في العروض والنقود واحد، وهو الزكاة. وكانوا يتبايعون بالأوساق، وقيمة الخمسة أوساق كانت مائتي درهم في ذلك الوقت غالبا، فأدير الحكم على ذلك.
واعلم أن العلماء اختلفوا في هذا الباب على تسعة أقوال:
الأول: قول أبي حنيفة، وقد ذكرناه، واحتج بظاهر الحديث كما ذكرنا، وبعموم قوله تعالى: * (ومما أخرجنا لكم من الأرض) * (البقرة: 762). وقوله تعالى: * (وآتوا حقه يوم حصاده) * (الأنعام: 141). واستثنى أبو حنيفة من ذلك: الحطب والقصب والحشيش والتبن والسعف، وهذا لا خلاف فيه لأحد، وذكر في (المبسوط): الطرفاء عوض الحطب. والسعف: ورق جريد النخل الذي تصنع منه المراوح ونحوها، والمراد بالقصب الفارسي، وهو يدخل بالأبنية وتتخذ منه الأقلام: قيل: هذا إذا كان القصب نابتا في الأرض، وأما إذا اتخذ الأرض مقبة فإنه يجب فيه العشر، ذكره الاسبيجابي والمرغيناني وغيرهما، ويجب في قصب السكر والذريرة وقوائم الخلاف، بتخفيف اللام، وقال ابن المنذر: لا نعلم أحدا قاله غير نعمان. وقال السروجي: لقد كذب في ذلك، فإنه لا يخفى عنه من قاله غيره، وإنما عصبيته تحمله على ارتكاب مثله قلت: قول أبي حنيفة مذهب إبراهيم النخعي ومجاهد وحماد وزفر وعمر بن عبد العزيز، ذكره أبو عمر، وهو مروي عن ابن عباس، وهو قول داود وأصحابه فيما لا يوسق، وحكاه يحيى بن آدم بسند جيد عن عطاء: ما أخرجته الأرض فيه العشر أو نصف العشر، وقاله أيضا حفص بن غياث عن أشعث عن الحكم، وعن أبي بردة: في الرطبة صدقة، وقال بعضهم: في دستجة من بقل، وعن الزهري: ما كان سوى القمح والشعير والنخل والعنب والسلت والزيتون فإني أرى أن تخرج صدقته من أثمانه، رواه ابن المبارك عن يونس عن الزهري، وقال ابن بطال: وقول أبي حنيفة خلاف السنة، والعلماء، قال: وقد تناقض فيها لأنه استعمل المجمل والمفسر في قوله صلى الله عليه وسلم: (في الرقة ربع العشر)، مع قوله: (ليس فيما دون خمس أواق صدقة)، ولم يستعمله في حديث الباب مع ما بعده، وكان يلزمه القول به. انتهى. قلت: قوله: خلاف السنة، باطل لأنه احتج فيما ذهب إليه بحديث الباب، كما ذكرنا، والذي ذهب إليه ابن بطال خلاف القرآن، لأن عموم قوله تعالى: * (وآتوا حقه يوم حصاده) * (الأنعام: 141). يتناول القليل والكثير، كما ذكرناه. وقوله: وخلاف العلماء، أيضا باطل، لأن قول أبي حنيفة هو قول من ذكرناهم الآن، فكيف يقول بترك الأدب خلاف العلماء؟ وقوله: وقد تناقض، غير صحيح، لأن من نقل ذلك من أصحابه لم يقل أحد منهم إنه استعمل المجمل والمفسر، وأصحابه أدرى بما قاله وبما ذهب إليه، ولما نقل صاحب (التوضيح) ما قاله ابن بطال أظهر النشاط بذلك، وقال: وفي حديث جابر: لا زكاة في شيء من الحرث حتى يبلغ خمسة أوسق، فإذا بلغها ففيه الزكاة، ذكرها ابن التين، وقال: هي زيادة من ثقة فقبلت، وفي مسلم من حديث جابر: (وليس فيما دون خمسة أوساق من التمر صدقة)، وفي رواية من حديث أبي سعيد: (ليس فيما دون خمسة أوساق من تمر ولا حب صدقة). وفي رواية: (ليس في حب ولا تمر صدقة)، حتى يبلغ خمسة أوساق. انتهى. قلت: قد ذكرنا أن المراد من الصدقة في هذه الأحاديث زكاة التجارة، وكذلك المراد من قوله: (لا زكاة في شيء)، أي: لا زكاة في التجارة، ونحن نقول به حينئذ، وقال ابن التين: روى أبان بن أبي عياش عن أنس مرفوعا: (فيما سقت السماء العشر في قليله وكثيره)، قال: ورواه أبو مطيع البلخي وهو مجهول عند أهل النقل، والمروي عن أبي حنيفة عن أبان عن رجل عن النبي، صلى الله عليه وسلم، ضعيف عن رجل مجهول. وقال النووي: لا خلاف بين المسلمين أنه لا زكاة فيما دون خمسة أوسق إلا ما قال أبو حنيفة وبعض السلف: إنه تجب الزكاة في قليل الحب وكثيره، وهذا مذهب باطل، منابذ لصريح
(٧٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 ... » »»