عمدة القاري - العيني - ج ٧ - الصفحة ٢٢٤
على أنه لا تحصل سنة صلاة الاستخارة بوقوع الدعاء بعد صلاة الفريضة لتقييد ذلك في النص بغير الفريضة. قوله: (ثم ليقل اللهم) إلى آخره، دليل على أنه لا يضر تأخير دعاء الاستخارة عن الصلاة ما لم يطل الفصل. قوله: (بعلمك) الباء فيه وفي قوله: (بقدرتك) للتعليل، أي: بأنك أعلم وأقدر، قاله شيخنا زين الدين.
وقال الكرماني يحتمل أن تكون للاستعانة، وأن تكون للاستعطاف كما في قوله: * (رب بما أنعمت علي) * (القصص: 71). أي: بحق علمك وقدرتك الشاملين. قوله: (وأستقدرك) أي: أطلب منك أن تجعل لي قدرة عليه. قوله: (وأسألك من فضلك العظيم) كل عطاء الرب جل جلاله فضل، فإنه ليس لأحد عليه حق في نعمه ولا في شيء، فكل ما يهب فهو زيادة مبتدأة من عنده لم يقابلها منا عوض فيما مضى، ولا يقابلها فيما يستقبل، فإن وفق للشكر والحمد فهو نعمة منه وفضل يفتقر إلى حمد وشكر، وهكذا إلى غير نهاية، خلاف ما تعتقده المبتدعة التي تقول: إنه واجب على الله تعالى أن يبتدئ العبد بالنعمة وقد خلق له القدرة، وهي باقية فيه دائمة له أبدا يعصي ويطيع. قوله: (وأنت علام الغيوب) المعنى: أنا أطلب مستأنفا لا يعلمه إلا أنت، فهب لي منه ما ترى أنه خير لي في ديني ومعيشتي وعاجل أمري وآجله، وهذه أربعة أقسام خير يكون له في دينه دون دنياه، وخير له في دنياه خاصة ولا تعرض في دينه، وخير في العاجل وذلك يحصل في الدنيا، ولكن في الآخرة أولى، وخير في الآجل وهو أفضل، ولكن إذا اجتمعت الأربعة فذلك الذي ينبغي للعبد أن يسأل ربه، ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم أصلح ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، والموت راحة لي من كل شر، إنك على كل شيء قدير). قوله: (ومعاشي)، المعاش والمعيشة واحد، يستعملان مصدرا وإسما. وفي (المحكم): العيش الحياة، عاش عيشا وعيشة ومعيشا ومعاشا وعيشوشة، ثم قال: المعيش والمعاش والمعيشة ما يعاش به. قوله: (أو قال) هو شك من بعض الرواة. قوله: (فاقدره لي) أي: فقدره، يقال: قدرت الشيء أقدره، بالضم والكسر، قدرا، من التقدير. قال شهاب الدين القرافي في كتاب (أنوار البروق): يتعين أن يراد بالتقدير هنا التيسير، فمعناه: فيسره. قوله: (وبارك لي فيه) أي: أدمه وضاعفه. قوله: (واصرفه عني واصرفني عنه) أي: لا تعلق بالي به وتطلبه، ومن دعاء بعض أهل الطريق: اللهم لا تتعب بدني في طلب ما لم يقدر لي، ويقال: معناه طلب الأكمل من وجوه انصراف ما ليس فيه خيرة عنه، ولم يكتف بسؤال صرف أحد الأمرين لأنه قد يصرف الله خيره عن المستخير عن ذلك الأمر بأن ينقطع طلبه له، وذلك الأمر الذي ليس فيه خيرة يطلبه، فربما أدركه. وقد يصرف الله عن المستخير ذلك الأمر ولا يصرف قلب العبد عنه، بل يبقى متطلبا متشوقا إلى حصوله، فلا يطيب له خاطره، فإذا صرف كل منهما عن الآخر كان ذلك أكمل، ولذلك قال في آخره: (فاقدر لي الخير حيث كان، ثم رضني به). لأنه إذا قدر له الخير ولم يرض به كان منكدر العيش آثما بعدم رضاه بما قدره الله له، مع كونه خيرا له، والرضى سكون النفس إلى القدر والقضاء. قوله: (ويسمي حاجته) أي: في أثناء الدعاء عند ذكرها بالكناية عنها في قوله: إن كان هذا الأمر).
ذكر ما يستفاد منه: فيه: استحباب صلاة الاستخارة والدعاء المأثور بعدها في الأمور التي لا يدري العبد وجه الصواب فيها، أما ما هو معروف خيره: كالعبادات وصنائع المعروف، فلا حاجة للاستخارة فيها، نعم، قد يستخار في الإتيان بالعبادة في وقت مخصوص؛ كالحج، مثلا في هذه السنة لاحتمال عدو أو فتنة أو حصر عن الحج، وكذلك يحسن أن يستخار في النهي عن المنكر كشخص متمرد عات يخشى بنهيه حصول ضرر عظيم عام أو خاص، وإن كان جاء في الحديث: (إن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)، لكن إن خشي ضررا عاما للمسلمين فلا ينكر، وإن خشي على نفسه فله الإنكار، ولكن يسقط الوجوب. وفيه في: قوله: (فليركع ركعتين)، دليل على أن السنة للإستخارة كونها ركعتين، فإنه لا تجزىء الركعة الواحدة في الإتيان بسنة الاستخارة، وهل يجزئ في ذلك أن يصلي أربعا أو أكثر بتسليمة يحتمل أن يقال: يجزئ ذلك لقوله في حديث أبي أيوب: (ثم صل ما كتب الله لك)، فهو دال على أن الزيادة على الركعتين لا تضر. وفيه: ما كان من شفقته صلى الله عليه وسلم بأمته وإرشادهم إلى مصالحهم دينا ودنيا. وفيه: في قوله: (فليركع ركعتين) استحباب ذلك، في كل وقت إلا في وقت الكراهة، وكذلك عند الشافعية في الأصح. وفيه: دلالة على أن العبد لا يكون قادرا، إلا بالفعل لا قبله، كما تقول القدرية، وقال ابن بطال: القوة والقدرة من صفات الذات، والقدرة والقوة بمعنى واحد مترادفا فإن فالباري، تعالى، لم يزل قادرا قويا
(٢٢٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 219 220 221 222 223 224 225 226 227 228 229 ... » »»