عمدة القاري - العيني - ج ٦ - الصفحة ٢٠٨
كالجار قصبه في النار)، وقال الذهبي: عثمان بن الأزرق له صحبة، قاله في معجم الطبراني. ومنها: حديث أبي الدرداء أخرجه الطبراني في (الأوسط) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تأكل متكئا، ولا تخط رقاب الناس يوم الجمعة). وفي سنده عبد الله بن زريق، قال الأزدي لم يصح حديثه. ومنها: حديث أنس، رضي الله تعالى عنه، أخرجه الطبراني أيضا، قال: (بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذ جاء رجل فتخطى رقاب الناس..) الحديث، وفيه: (رأيتك تخطى رقاب الناس وتؤذيهم، من آذى مسلما فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، عز وجل. قوله: (اتخذ جسرا)، قال شيخنا في (شرح الترمذي): المشهور: اتخذ، على بناء المجهول بمعنى: يجعل جسرا على طريق جهنم ليوطأ ويتخطى كما تخطى رقاب الناس، فإن الجزاء من جنس العمل، ويحتمل إن يكون على بناء الفاعل، أي: اتخذ لنفسه جسرا يمشي عليه إلى جهنم بسبب ذلك. قوله: (وآنيت) أي: أخرت المجيء وأبطأت. قوله: (قصبه)، القصب، بضم القاف: المعاء، وجمعه: أقصاب، وقيل: القصب اسم للأمعاء كلها، وقيل: هو ما كان أسفل البطن من الأمعاء. قوله: (متكئا) أي: حال كونك متكئا.
وقال صاحب (التوضيح): وقد اختلف العلماء في التخطي، فمذهبنا أنه مكروه إلا أن يكون قدامه فرجة لا يصليها إلا بالتخطي فلا يكره حينئذ، وبه قال الأوزاعي وآخرون، وقال ابن المنذر بكراهته مطلقا عن سلمان الفارسي وأبي هريرة، وكعب وبن سعيد بن المسيب وعطاء وأحمد بن حنبل، وعن مالك: كراهته إذا جلس على المنبر، ولا بأس به قبله. وقال قتادة: يتخطاهم إلى مجلسه. وقال الأوزاعي: يتخطاهم إلى السعة وهذا يشبه قول الحسن، قال: لا بأس بالتخطي إذا كان في المسجد سعة، وقال أبو بصرة: يتخطاهم بإذنهم. وقال ابن المنذر: لا يجوز شيء من ذلك عندي، لأن الأذى يحرم قليله وكثيره، وقال صاحب (التوضيح): وهو المختار، وعند أصحابنا الحنفية لا بأس بالتخطي والدنو من الإمام إذا لم يؤذ الناس. وقيل: لا بأس به إذا لم يأخذ الإمام في الخطبة، ويكره إن أخذ. وقال الحلواني: الصحيح أن الدنو من الإمام أفضل لا التباعد منه، ثم تقييد التخطي بالكراهة يوم الجمعة هو المذكور في الأحاديث، وكذلك قيده الترمذي في حكايته عن أهل العلم، وكذلك قيده الشافعية في كتب فقههم في أبواب الجمعة، وكذا هو عبارة الشافعي في (الأم): وأكره تخطي رقاب الناس يوم الجمعة لما فيه من الأذى وسوء الأدب. انتهى. قلت: هذا التعليل يشمل يوم الجمعة وغيره من سائر الصلوات في المساجد وغيرها، وسائر المجامع من حلق العلم وسماع الحديث ومجالس الوعظ، وعلى هذا يحمل التقييد بيوم الجمعة على أنه خرج مخرج الغالب لاختصاص الجمعة بمكان الخطبة وكثرة الناس، بخلاف غيره. ويؤيد ذلك ما رآه أبو منصور الديلمي في (مسند الفردوس) من حديث أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تخطى حلقة قوم بغير إذنهم فهو عاص)، ولكنه ضعيف لأنه من رواية جعفر بن الزبير، فإنه كذبه شعبة وتركه للناس.
ثم اختلفوا في كراهة ذلك: هل هو للتحريم أو لا؟ فالمتقدمون يطلقون الكراهة ويريدون كراهة التحريم وحكى الشيخ أبو حامد في تعليقه عن نص الشافعي التصريح بتحريمه، وحكى الرافعي في الشهادات عن صاحب (العدة) أنه عده من الصغائر، ونازعه الرافعي وقال: إنه من المكروهات، وقال في: باب الجمعة: إن تركه من المندوبات، وصرح النووي في (شرح المهذب) بأنه مكروه كراهة تنزيه. وقال في (زوائد الروضة): إن المختار تحريمه، للأحاديث الصحيحة. واقتصر أصحاب أحمد على الكراهة فقط، وقال شارح الترمذي: ويستثنى من التحريم أو الكراهة: الإمام أو من كان بين يديه فرجة لا يصل إليها إلا بالتخطي، وأطلق النووي في (الروضة) استثناء الإمام ومن بين يديه فرجه، ولم يقيد الإمام بالضرورة ولا الفرجة بكون التخطي إليها يزيد على صفين. وقيد ذلك في (شرح المهذب) فقال: فإن كان إماما لم يجد طريقا إلى المنبر والمحراب إلا بالتخطي لم يكره، لأنه ضرورة. وفي (الأم): فإن كان الزحاام دون الإمام لم أكره له من التخطي ما أكره للمأموم، لأنه مضطر إلى أن يمضي إلى الخطبة، وقال في (الأم) أيضا: فإن كان دون مدخل الرجل زحام وأمامه فرجة، وكان تخطيه إليها بواحد أو اثنين رجوت أن يسعه التخطي، وإن كرهته إلا أن لا يجد السبيل إلى مصلى، فيه الجمعة إلا أن يتخطى، فيسعه التخطي: إن شاء الله تعالى. ونقل النووي عن الشافعي في (الفروق): إنه إذا وصل إليها بتخطي واحد أو اثنين فلا بأس به، فإن كان أكثر من ذلك كرهت له أن يتخطى، ثم لا فرق في كراهة التخطي أو تحريمه بين أن يكون المتخطي من ذوي الحشمة والأصالة، أو رجلا صالحا أوليس فيه وصف منهما. ونقل صاحب (البيان) عن القفال: أنه لو كان محتشما أو محترما لم يكره التخطي. قلت: هذا ليس بشيء، والأصل عدم
(٢٠٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 203 204 205 206 207 208 209 210 211 212 213 ... » »»