عمدة القاري - العيني - ج ٥ - الصفحة ٢٦٧
بيته على صلاته حيث يراه الناس كفضل المكتوبة على النافلة).
ذكر معناه: قوله: (اتخذ حجرة)، بالراء عند الأكثرين، وفي رواية الكشميهني: بالزاي، أيضا، فمعناه: شيئا حاجزا أي: مانعا بينه وبين الناس. قوله: (قد عرفت)، ويروى: (قد علمت). قوله: (من صنيعكم)، بفتح الصاد وكسر النون، وفي رواية الكشميهني: (من صنعكم)، بضم الصاد وسكون النون أي: حرصكم على إقامة صلاة التراويح، وهذا الكلام ليس لأجل صلاتهم فقط، بل لكونهم رفعوا أصواتهم وسبحوا به ليخرج إليهم، وحصب بعضهم الباب لظنهم أنه نائم، وسيأتي ذلك في الأدب، وزاد في الاعتصام (حتى خشيت أن يكتب عليكم، ولو كتب عليكم ما قمتم به) قوله: (فإن أفضل الصلاة..) آخره، ظاهره يشمل جميع النوافل. قوله: (إلا المكتوبة) أي: الفريضة.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: أن صلاة التطوع فعلها في البيوت أفضل من فعلها في المساجد، ولو كانت في المساجد الفاضلة التي تضعف فيها الصلاة على غيرها، وقد ورد التصريح بذلك في إحدى روايتي أبي داود لحديث زيد بن ثابت، فقال فيها: (صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة)، وإسنادها صحيح، فعلى هذا: لو صلى نافلة في مسجد المدينة كانت بألف صلاة على القول بدخول النوافل في عموم الحديث، وإذا صلاها في بيته كانت أفضل من ألف صلاة، وهكذا حكم مسجد مكة وبيت المقدس إلا أن التضعيف بمكة يحصل في جميع مكة، بل صحح النووي: أن التضعيف يحصل في جميع الحرم، واستثنى من عموم الحديث عدة من النوافل، ففعلها في غير البيت أكمل، وهي: ما تشرع فيها الجماعة: كالعيدين والاستسقاء والكسوف. وقالت الشافعية: وكذلك: تحية المسجد وركعتا الطواف وركعتا الإحرام إن كان عند الميقات مسجد كذي الحليفة، وكذلك التنفل في يوم الجمعة قبل الزوال وبعده. وفيه: حجة على من استحب النوافل في المسجد ليلية كانت أو نهارية حكاه القاضي عياض والنووي عن جماعة من السلف، وعلى من استحب نوافل النهار في المسجد دون نوافل الليل، وحكى ذلك عن سفيان الثوري ومالك. وفيه: ما يدل على أصل التراويح، لأنه صلى الله عليه وسلم، صلاها في رمضان بعض الليالي ثم تركها خشية أن تكتب علينا، ثم اختلف العلماء في كونها سنة أو تطوعا مبتدأ، فقال الإمام حميد الدين الضرير: نفس التراويح سنة، أما أداؤها بالجماعة فمستحب، وروى الحسن عن أبي حنيفة: أن التراويح سنة لا يجوز تركها. وقال الشهيد: هو الصحيح، وفي (جوامع الفقه): التراويح سنة مؤكدة، والجماعة فيها واجبة، وفي (الروضة) لأصحابنا: إن الجماعة فضيلة. وفي (الذخيرة) لأصحابنا عن أكثر المشايخ: إن إقامتها بالجماعة سنة على الكفاية، ومن صلى في البيت فقد ترك فضيلة المسجد. وفي (المبسوط): لو صلى إنسان في بيته لا يأثم، فعلها ابن عمر وسالم والقاسم ونافع وإبراهيم، ثم إنها عشرون ركعة. وبه قال الشافعي وأحمد، ونقله القاضي عن جمهور العلماء، وحكي أن الأسود بن يزيد كان يقوم بأربعين ركعة، ويوتر بسبع، وعند مالك: تسع ترويحات بست وثلاثين ركعة غير الوتر، واحتج على ذلك بعمل أهل المدينة، واحتج أصحابنا والشافعية والحنابلة بما رواه البيهقي بإسناد صحيح عن السائب بن يزيد الصحابي، قال: كانوا يقومون على عهد عمر، رضي الله تعالى عنه، بعشرين ركعة، وعلى عهد عثمان وعلي، رضي الله تعالى عنهما، مثله. فإن قلت: قال في (الموطأ): عن يزيد بن رومان قال: كان الناس في زمن عمر، رضي الله تعالى عنه، يقومون في رمضان بثلاث وعشرين ركعة؟ قلت: قال البيهقي: والثلاث هو الوتر، ويزيد لم يدرك عمر، ففيه انقطاع.
فائدة: استثناء المكتوبة مما يصلى في البيوت هو في حق الرجال دون النساء، فإن صلاتهن في البيوت أفضل، وإن أذن لهن في حضور بعض الجماعات، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الحديث الصحيح: (إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المسجد فأذنوا لهن وبيوتهن خير لهن.
أخرى: قوله: (في بيوتكم)، يحتمل أن يكون المراد بذلك إخراج بيوت الله تعالى، وهي المساجد، فيدخل فيه بيت المصلى وبيت غيره، كمن يريد أن يزور قوما في بيوتهم ونحو ذلك. ويحتمل أن يريد بيت المصلي دون بيت غيره، وهو ظاهر قوله في الرواية الأخرى: (أفضل صلاة المرء في بيته)، فيخرج بذلك أيضا بيت غير المصلى.
أخرى: اختلف في المراد بقوله: في حديث ابن عمر: (صلوا في بيوتكم)، فقال الجمهور فيما حكاه القاضي عنهم: إن المراد في صلاة النافلة استحباب إخفائها. قال: وقيل هذا في الفريضة، ومعناه: اجعلوا بعض فرائضكم في بيوتكم ليقتدي بكم من لا يخرج إلى المسجد من نسوة وعبيد ومريض ونحوهم، قال النووي: والصواب أن المراد النافلة فلا يجوز حمله على الفريضة.
أخرى: إنما حث على النوافل في البيوت لكونها أخفى وأبعد من الرياء، وأصون من المحبطات، وليتبرك البيت بذلك، وتنزل فيه الرحمة والملائكة، وتنفر منه الشياطين. والله تعالى أعلم.
بسم الله الرحمن الرحيم ((أبواب صفة الصلاة)) لما فرغ من بيان أحكام الجماعة والإقامة وتسوية الصفوف المشتملة على مائة واثنين وعشرين حديثا، الموصول من ذلك
(٢٦٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 263 264 265 266 267 267 268 269 270 271 272 ... » »»