عمدة القاري - العيني - ج ٥ - الصفحة ١٣١
بعيد إذ لم يختص هذا بشهر رمضان، وإنما أخبر عن عادته في أذانه، ولأنه العمل المنقول في سائر الحول بالمدينة، وإليه رجع أبو يوسف حين تحققه، ولأنه لو كان للسحور لم يختص بصورة الأذان للصلاة. قلت: هذا الذي قاله بعيد لأنهم لم يقولوا بأنه مختص بشهر رمضان، والصوم غير مخصوص به، فكما أن الصائم في رمضان يحتاج إلى الإيقاظ لأجل السحور، فكذلك الصائم في غيره، بل هذا أشد لأن من يحيي ليالي رمضان أكثر ممن يحيي ليالي غيره، فعلى قوله: إذا كان أذان بلال للصلاة كان ينبغي أن يجوز أداء صلاة الفجر به، بل هم يقولون أيضا بعدم جوازه، فعلم أن أذانه إنما كان لأجل إيقاظ النائم، ولإرجاع القائم. ومن أقوى الدلائل على أن أذان بلال لم يكن لأجل الصلاة ما رواه الطحاوي من حديث حماد بن سلمة عن أيوب عن نافع: (عن ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما: أن بلالا أذن قبل طلوع الفجر، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم، أن يرجع فينادي: ألا إن العبد نام، فرجع فنادى: ألا إن العبد نام). وأخرجه أبو داود أيضا، فهذا ابن عمر روى هذا، والحال أنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن بلالا ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم)، فثبت بذلك أن ما كان من ندائه قبل طلوع الفجر لم يكن للصلاة. فإن قلت: قال الترمذي: حديث حماد بن سلمة غير محفوظ، والصحيح هو حديثه الذي فيه: (إن بلالا ينادي بليل...) إلى آخره؟ قلت: ما قاله: لا يكون محفوظا، صحيحا، لأنه لا مخالفة بين حديثيه، لأنا قد ذكرنا أن حديثه الذي رواه غير حماد إنما كان لأجل إيقاظ النائم وإرجاع القائم، فلم يكن للصلاة. وأما حديث حماد فإنه كان لأجل الصلاة فلذلك أمره بأن يعود وينادي: (ألا إن العبد نام)، ومما يقوي حديث حماد ما رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس، رضي الله تعالى عنه: (أن بلالا أذن قبل الفجر فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يصعد فينادي: إن العبد نام). رواه الدارقطني ثم قال: تفرد به أبو يوسف عن سعيد، وغيره يرسله، والمرسل أصح. قلت: أبو يوسف ثقة، وهم وثقوه، والرفع من الثقة زيادة مقبولة، ومما يقويه حديث حفصة بنت عمر، رضي الله تعالى عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أذن المؤذن بالفجر قام فصلى ركعتي الفجر، ثم خرج إلى المسجد وحرم الطعام، وكان لا يؤذن حتى يصبح). رواه الطحاوي والبيهقي: فهذه حفصة تخبر أنهم كانوا لا يؤذنون للصلاة إلا بعد طلوع الفجر. فإن قلت: قال البيهقي: هذا محمول إن صح على الأذان الثاني، وقال الأثرم: رواه الناس عن نافع عن ابن عمر عن حفصة، ولم يذكروا فيه ما ذكره عبد الكريم عن نافع. قلت: كلام البيهقي يدل على صحة الحديث عنده، ولكنه لما لم يجد مجالا لتضعيفه ذهب إلى تأويله، وعبد الكريم الجزري ثقة، أخرج له الجماعة وغيرهم، فمن كان بهذه المثابة لا ينكر عليه إذا ذكر ما لم يذكره غيره. وقال الطحاوي: يحتمل أن يكون بلال كان يؤذن في وقت يرى أن الفجر قد طلع فيه، ولا يتحقق لضعف في بصره، والدليل على ذلك ما رواه أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يغرنكم أذان بلال، فإن في بصره شيئا). وقد ذكرناه فيما مضى، وأخرج الطحاوي أيضا تأكيدا لذلك عن أبي ذر، رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال: (أنك تؤذن إذا كان الفجر ساطعا وليس ذلك الصبح، إنما الصبح هكذا معترضا) والمعنى: أن بلالا كان يؤذن عند طلوع الفجر الكاذب الذي لا يخرج به حكم الليل، ولا تحل به صلاة الصبح، ومما يدل حديث الباب على استحباب أذان واحد بعد واحد.
وأما أذان اثنين معا فمنع منه قوم، وقالوا: أول من أحدثه بنو أمية. وقال الشافعية: لا يكره إلا إن حصل منه تهويش. وقال ابن دقيق العيد: وأما الزيادة على الاثنين فليس في الحديث تعرض إليه. ونص الشافعي على جوازه، ولفظه: ولا يضيق إن أذن أكثر من اثنين.
وفيه: جواز تقليد الأعمى للبصير في دخول الوقت، وصحح النووي في كتبه: أن للأعمى والبصير اعتماد المؤذن الثقة.
وفيه: الاعتماد على صوت المؤذن والاعتماد عليه أيضا في الرواية إذا كان عارفا به، وإن لم يشاهد الراوي.
وفيه: استحباب السحور وتأخيره. وفيه: جواز العمل بخبر الواحد. وفيه: أن ما بعد الفجر حكم النهار. وفيه جواز ذكر الرجل بما فيه من العاهة إذا كان لقصد التعريف وفيه جواز نسبة الرجل إلى أمه إذا اشتهر بذلك. وفيه: جواز التكنية للمرأة.
((باب الآذان بعد الفجر)) أي: هذا باب في الأذان المعتبر الواقع بعد طلوع الفجر، وقدم هذا الباب على الباب الذي يليه لكونه أصلا، لأن الأذان
(١٣١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 126 127 128 129 130 131 132 133 134 135 136 ... » »»