الدر النظيم - إبن حاتم العاملي - الصفحة ٣٨٣
بطلبتك، قد مثلت لك الدنيا به نفسك، وبمصرعه مصرعك، غداة لا ينفعك بكاؤك، ولا يغني عنك أحباؤك (1).
ولم يسمع في مدح الدنيا أحسن من هذا المدح.
وقال (عليه السلام): ألا أن الدنيا قد ارتحلت مدبرة وأن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولهذه أبناء ولهذه أبناء، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا.
ألا وكونوا الزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة، لأن الزاهدين في الدنيا اتخذوا الأرض بساطا والتراب فراشا والماء طيبا وقرضوا الدنيا قرضا.
ألا ومن اشتاق إلى جنة سلا عن الشهوات، ومن أشفق من النار رجع عن المحرمات، ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات، ومن راقب الخير سارع في الخيرات. ألا وأن لله عبادا كأنهم يرون أهل الجنة في الجنة منعمين مخلدين، ويرون أهل النار في النار معذبين مخلدين، قلوبهم مخمونة (2)، وشرورهم مأمونة، أنفسهم عفيفة وحاجاتهم خفيفة، صبروا أياما قليلة فصارت العقبى لهم راحة طويلة. أما الليل فصافوا أقدامهم، تجري دموعهم على خدودهم، يجأرون إلى ربهم، ويسعون في فكاك رقابهم من النار. وأما النهار فحلماء علماء، بررة أتقياء، كأنهم القداح، قد براهم الخوف والعبادة، ينظر إليهم الناظر فيقول مرضى وما بالقوم من مرض، أم خولطوا فقد خالط القوم أمر عظيم من ذكر النار ومن فيها (3).
ودخل عليه رجل فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، كيف أصبحت يا أمير المؤمنين؟ قال: أصبحت ضعيفا مذنبا: آكل رزقي وأنتظر أجلي. قال: فما تقول في الدنيا؟
قال: أولها غم وآخرها موت، من استغنى فيها فتن، ومن افتقر فيها حزن، حلالها حساب، وحرامها عقاب.
قال: وأي الخلق أنعم؟ قال: أجساد تحت التراب قد أمنت العقاب،

(1) أمالي الطوسي: ج 2 ص 207.
(2) كذا في الأصل، وفي نهج البلاغة: محزونة.
(3) نهج البلاغة: ص 486 حكمة 104 وأولها: يا نوف طوبى للزاهدين.
(٣٨٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 378 379 380 381 382 383 384 385 386 387 388 ... » »»