العربي الكبير، واعجب بمزاياه وبشعره أيما اعجاب وأدناه وقربه إليه وأغدق عليه فأجاد هذا الهدايا والمواهب وأجاد ذلك صوع الفرائد والقلائد. وكان بلاط سيف الدولة كبلاط لويس الرابع عشر في فرنسا أشبه بمجمع علمي يضم الشاعر والناثر واللغوي والفقيه والعالم والأديب والفيلسوف والطبيب حتى كان يلتقي على مائدته أربعة وعشرون طبيبا، من حذق منهم علما واحدا كان له رزق واحد ومن حذق منهم علمين فله رزقان، وفيه خيرة من أنبتته العروبة والاسلام من رجالات العلم واعلام الأدب كالفارابي والصنوبري وأبي علي الفارسي وابن نباته السعدي وأبي الفرج الأصفهاني وابن خالويه والأمير أبي فراس والرفاء والنامي وكثير غير هؤلاء. فلا غرابة إذا كثر حساد المتنبي ومناوئوه في البلاط وخاصة إذا لوحظ ما كان عليه المتنبي من الطبع القوي وخلق التعاظم والعجرفة. وليس من الإنصاف ان نقول إن الحسد وحده كان السبب في عداوة الناس له، بل إن الرجل كان على جانب عظيم من غلظة الطبع والتعرض لعداوة الناس وقد اتصلت غلظة طبعه هذه بتعاظمه وترفعه على الناس بتأزر الخلقان على خلق الكراهية له في نفوس عارفيه ومعاشريه، أ لم يقل:
أمط عنك تشبيهي بما وكأنما * فما أحد فوقي ولا أحد مثلي سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا * بأنني خير من تسعى به قدم وكيف لا يحسد امرؤ علم * له على كل هامة قدم وهذا الطبع صحبه في جميع المواطن فاوجد له من الخصوم أمثال ابن كروس عند بدر بن عمار والأمير أبي فراس الحمداني و ابن خالويه وغيرهما عند سيف الدولة والوزير ابن حنزابه عند كافور والحاتمي واضرابهما في بغداد.
وقد ضايق هؤلاء الخصوم والحساد المتنبي في البلاط الحمداني واستطاعوا ان يوغروا صدر الأمير الكبير عليه وتبرم المتنبي بهؤلاء الخصوم والحساد وهدد وعرض:
أبا الجود اعط الناس ما أنت مالك * ولا تعطين الناس ما انا قائل أ في كل يوم تحت ضبني شويعر * ضعيف يقاويني قصير يطاول بأي لفظ تقول الشعر زعنفة * تجوز عندك لا عرب ولا عجم وليس من السهل ان يحف الشاعر في حضرة من ينشده بفئة كبيرة من حاسديه وماقتيه يرمقونه شزرا ويعيبونه كيف قال وكيف نطق. ان صمود المتنبي لخصومه هؤلاء في مجلس سيف الدولة عند انشاده إياه قصيدته واحر قلباه ممن قلبه شبم وشدة معارضة أبي فراس له وتعييبه ونقده وتوجيه الإهانات له كل ذلك لمما يصدع قلب الأسد ويفت في العزيمة ويفلج المقاومة والمغالبة وإذا أضيف إلى ذلك انقلاب سيف الدولة أيضا على الشاعر ومجاراته للخصوم في ذلك المجلس حتى ضرب الشاعر بالدواة التي بين يديه على مرأى ومسمع من هؤلاء الخصوم، عرفنا قوة ذلك القلب الذي يحمله المتنبي وشدة جلادته على الصدمة ومثل هذه الصدمات تحل العزائم وتخرس الألسنة وتفقد الرشد. ولم يبق امام المتنبي بعد هذا غير الخروج من حلب ومفارقة سيف الدولة فراق الوامق المغلوب المخذول...
وقد يظن أن الأمير أبا فراس حين كان يوغر صدر سيف الدولة على المتنبي ويغريه بقطع عطاياه عنه وتوزيعها على غيره من الشعراء يعد ذلك حسدا من الأمير لأبي فراس. والواقع ان أبا فراس في منزلة من الشعر والأدب والقربى من سيف الدولة لا يدانيه فيها المتنبي ولا غيره، حتى قالوا إن المتنبي كان يتهيب انشاد الشعر في حضرة أبي فراس الدولة يدعوه في أكثر الأحيان الا سيدي، ولم يكن البلاط الحمداني وغيره ينظر إلى شعر أبي فراس بأقل من نظره إلى شعر أبي الطيب. وأبو فراس من رجال الحمدانيين المغاوير ومن ابطال سيف الدولة الأفذاذ، بل هو دعامة عظيمة من دعائم الدولة الحمدانية ولم يقرب من سيف الدولة قربه أحد، ورجل مثل هذا لا يكون حاسدا وانما يكون محسدا. وفيه وفي امرئ القيس قالوا بدئ الشعر بملك وختم بملك. وانما كان ذلك حملة موجهة إلى شخصية المتنبي وما يلازم هذه الشخصية من عجرفة وكبرياء وتعاظم حتى في مجلس سيف الدولة وحتى على سيف الدولة نفسه وبني أعمامه وأبو فراس في موقفه ذلك ماقت ناقد وليس بحاسد.
فارق المتنبي سيف الدولة أسفا نادما يلتفت إلى أمامه لفتة والى خلفه لفتات وهو الذي يقول في هذا الفراق:
ولله سيرى ما أقل تئية * عشية شرقي الحدالى وغرب عشية أحفى الناس بي من جفوته * واهدى الطريقين التي أتجنب أ ليس في قوله ومن جفوته اعتراف بأنه البادئ في الجفاء وانه هو مصدر هذا التباعد لسيف الدولة ثم أ ليس فيه الصراحة الكافية الدالة على أنه خلف الأمل والرجاء وراءه واستقبل الخيبة والياس أمامه:
يا من يعز علينا ان نفارقهم * وجداننا كل شئ بعدكم عدم نعم لقد كان وجدانه كل شئ عدما بعد سيف الدولة، فارقه وهو لا يريد فراقه ونزح وهو لا يرغب في هذا النزوح. وقد ذكر أحد الفضلاء من الأدباء المعاصرين ان فراق المتنبي لسيف الدولة لم يكن منشؤه ما وقع للمتنبي من كيد حساده له وتغير قلب سيف الدولة عليه، وانما كان ذلك منبعثا عن حبه خولة أخت سيف الدولة ومعرفة بعض امراء البيت الحمداني بذلك حتى قاموا يناوئونه تلك المناوءة ويستثيرون عليه سيف الدولة. وهذا خلاف ما ذهب إليه جميع الذين ترجموا المتنبي وهي دعوى ما تزال تفتقر إلى عناصر تحقيقه وأدلة أقوى من الأدلة التي اعتمدها الكاتب، وألبت فيها على هذا النحو، والحال كما ذكرنا، مجازفة قولية لا تقوم على أساس. والمتنبي من أصلب الناس عودا وأغلظهم كبدا في قضايا الحب ومشاكل الغرام.
وقد انبترت الصلات بين المتنبي وسيف الدولة بعد حلب سوى ما كان من انفاذ سيف الدولة ابنه من حلب إلى المتنبي في الكوفة، بعد خروجه من مصر يدعوه إلى حلب وانفاذ المتنبي قصيدته مالنا كلنا جو يا رسول إليه سنة 352، ثم انفاذه إليه قصيدته يا أخت خير أخ يا بنت خير أب يعزيه بخولة أخته، ثم كتابة سيف الدولة إليه وجواب المتنبي على هذا الكتاب أواخر سنة 353 بقصيدته فهمت الكتاب أبر الكتب والقصائد الثلاث هذه تكشف عن عاطفة متأججة في المتنبي نحو سيف الدولة لم تقو عوامل التشرد الشديدة وقسوة الظروف التي مرت على المتنبي ان تطفئ من جمرتها أو تخمد من جذوتها. وقد جاء في الأولى:
كلما رحبت بنا الروض قلنا * حلب قصدنا وأنت السبيل فيك مرعى جيادنا والمطايا * واليها وجيفنا والذميل والمسمون بالأمير كثير * والأمير الذي بها المأمول الذي زلت عنه شرقا وغربا * ونداه مقابلي ما يزول