غضبت له لما رأيت صفاته * بلا واصف والشعر تهذي طماطمه لقد سل سيف الدولة المجد معلما * فلا المجد مخيفة ولا الضرب ثالمه أما الرواية التي يؤخذ منها ان المتنبي اشترط على سيف الدولة حينما لقيه في أنطاكية ان لا ينشده الا وهو قاعد، وان لا يكلف تقبيل الأرض بين يديه فهي رواية لا يرتاح إليها الباحثون، ولا يطمئن لها العارفون حقيقة سيف الدولة، والمتنبي يومئذ لم يكن مشهورا شهرته بعد اتصاله بسيف الدولة ولم يكن نفخ في انفه بعد كبر العظمة والغرور.
وإذا كان من المقرر ان البيئة شديدة التأثير في الشاعر وان الشاعر متأثر ببيئته لا محالة فان البيئة الجديدة التي صار إليها المتنبي في ظلال سيف الدولة كانت خصيبة وجد خصيبة على أدب أبي الطيب وشعره، وقد ظهرت اثارها في جميع أنماط شعره الذي قاله مدة ملازمته سيف الدولة وبعد مفارقته إياه.
وخصائص سيف الدولة الأدبية العظيمة، من عمق المعرفة، وطول الباع في الأدب ونقده، وسمو المنزلة مع نفاذ النظر، كل ذلك كان حافزا للمتنبي ان يجود فيما يقول لعلمه انه سيعرضه على الصيقل. وكان من ذلك أيضا الحياة الوارفة الظلال، الرافهة، الهانئة التي اتصل بها أبو الطيب بعد ذلك القلق المساور وضربه في اجواز الفلوات ومغامرته في البلدان يقولون لي ما أنت في كل بلدة وما تبتغي، ما ابتغي جل ان يسمى لقد وصل المتنبي أو كاد إلى هذا الذي قال إنه جل ان يسمى وبلغ ان يتعاظم على الكبراء والامراء في مجالس الملوك وكاد يقول ما قاله الأخطل من قبل لعبد الملك بن مروان:
خرجت اجر الذيل حتى كأنني * عليك أمير المؤمنين أمير وإذا أضيف إلى هذا علو ثقافة سيف الدولة وان حلب كانت في عصر سيف الدولة عاصمة للعلم والأدب ومركزا لاثرى المكاتب لا سيما مكتبة الأمير سيف الدولة العظيمة التي كان الإخوان الخالديان قيمين عليها نعلم مقدار ما استطاعت اقتباسه ثقافة المتنبي البدوية الجافة من ثقافة سيف الدولة العلمية الأدبية الناضرة.
ويلاحظ بعض الذين كتبوا في المتنبي من المتأخرين ان وشائج المحبة والولاء بين هذين الرجلين الفذين سيف الدولة والمتنبي لم تكن قائمة على الروابط الأدبية فقط بل إن هذه الوشائج كانت تتصل بالنواحي السياسية ووحدة الاتجاه فيها، فكلا الرجلين كانا يتعاونان على انفاذ برنامج واحد هو اعلاء شأن العروبة والعمل للمجد العربي في عصر سيطرت فيه الأعاجم وكاد يذوب العربي في السلطات الغربية عنه... وكانت هذه الناحية من أدق البواعث لسيف الدولة في تقريب المتنبي وتفضيله على غيره ممن يمت إليه من أركان الدولة ورجالات العلم والأدب حتى اسمى الناس قربى لديه. وهو القائل يوم اتصاله بأبي العشائر تحقيقا لغرضه:
فسرت إليك في طلب المعالي * وسار سواي في طلب المعاش هذه الادعاءات التي ادعيناها نحن وغيرنا للمتنبي وادعاها هو لنفسه من بغضه الأعاجم وحبه توحيد المساعي مع الامراء العرب لجعل كلمة العرب العليا وتخليصهم من المتسلطين عليهم وليسوا منهم ربما نقضها ما أشهدناه من المتنبي بعد خروجه من حلب وقصده كافورا في مصر ومدحه إياه أجل المديح وهو غير عربي ثم قصده إلى ابن العميد في أرجان، ثم عضد الدولة البويهي في شيراز وكلاهما من الأعاجم الذين زخر شعر المتنبي في النقمة عليهم والغض منهم. ولعل كل هذا صورة عن حيرة المتنبي وقلقه النفساني، ثم لعله تأييدا لما ذهب إليه آخرون من أن المتنبي كغيره من شعراء عصره لم يكن يبالي بغير جمع المال والحصول عليه من أي طريق جاء وبآية وسيلة حصل. وربما يعتذر المتنبي عن ذلك بأنه لم يكن مخلصا في مدحه لهؤلاء وانما تكلف ذلك تكلفا، وانه لم يقصد شيراز إلى عضد الدولة الا بعد تلكؤ وتثاقل وبعد الحاح ابن العميد عليه ولما استنشد الشعر في أول ملاقاته تعاظم وانشد من قصيدته التي قالها بعد خروجه من مصر:
فلما انحنا ركزنا الرماح * بين مكارمنا والعلى وبتنا نقبل أسيافنا * ونمسحها من دماء العدى لتعلم مصر ومن بالعراق * ومن بالعواصم اني الفتى واني وفيت واني أبيت * واني عتوت على من عتا حتى قال عضد الدولة هونا. يتهددنا المتنبي ثم هو لما أنشده قصيدته قال في مستهلها:
ولكن الفتى العربي فيها * غريب الوجه واليد واللسان ملاعب جنة لو سار فيها * سليمان لسار بترجمان ومن بالشعب أحوج من حمام * إذا غنى وناح إلى البيان وقد أشار عضد الدولة إلى موقف المتنبي هذا فقال: ان المتنبي كان جيد شعره بالغرب يريد سيف الدولة. ولما وصل هذا إلى المتنبي قال الشعر على قدر البقاع. وإذا مدح المتنبي كافورا أو ابن بويه بعد مدحه ابن حمدان فليس انصافا ان يتخذ ذلك طريقا إلى الشك في اخلاص المتنبي لسيف الدولة وشدة ولائه ومحبته له، فكذب الشاعر في شئ لا يستلزم كذبه في غيره وخاصة إذا راعينا ظروف المتنبي ولاء منا بينها وبين نفسه وغرائزه.
وكانت عطايا سيف الدولة للمتنبي عظيمة ذكر صاحب خزانة الأدب ان ما ناله المتنبي من سيف الدولة في أربع سنين بلغ خمسة وثلاثين ألف دينار، وكان يعطيه في كل سنة ثلاثة آلاف دينار على ثلاث قصائد ما عدا العطايا الخاصة. أ فلا يحق للمتنبي بعده هذا أن يقول في سيف الدولة:
أسير إلى اقطاعه في ثيابه على طرفه من داره بحسامه وهو الذي كان قبل اتصاله به يتعثر بأذيال الفقر والخساسة ويضرب في الآفاق من أجل دينار راكبا فعليه وممتطيا قدميه. وبنو حمدان كما قال الثعالبي في اليتيمة كانوا ملوكا وجوههم للصباحة وعقولهم للرجاحة وأيديهم للسماحة وألسنتهم للفصاحة. وغير مستنكران يجد المتنبي في هذه الوجوه الصبيحة ما يصرفه عن وجوه الغيد، وفي تلك الألسنة الفصيحة ما يكسو به شعره من وشي وانماط، وفي تلك العقول الرجيحة ما يقبس منه مصباحه العقلي الذي أضاء له السبيل إلى رائع حكمته وبليغ فلسفته. إما السماحة التي وجدها بقربهم فهي التي صيرته يقول من بعد:
تركت السرى خلفي لمن قل ماله * وانعلت أفراسي بنعماك عسجدا لازم المتنبي سيف الدولة تسع سنوات أتحفت الأدب العربي بأروع ما يتحف به شاعر، وضمت إلى قائمة فحول شعراء العربية شاعرا عقمت العربية إلى اليوم ان تلد مثله، وعطف الأمير العربي الكبير على الشاعر