فسأله الجلوس فجلس فخلع عليه ثيابا نفيسة، ثم نهض لينصرف فسأله الجلوس فجلس فامر بثمن جارية فحمل إليه ونهض فسأله الجلوس فجلس فامر له بقود مهره فقال له ابن الطواشي الكاتب لا تبرحن الليلة يا أبا الطيب فقال:
أعن أذني تهب الريح رهوا * ويسري كلما شئت الغمام ولكن الغمام له طباع * تبجسه بها وكذا الكرام كان ابن الطواشي أراد بقوله لا تبرحن الليلة ان المصلحة عدم ذهابك فإنك كلما أردت ان تذهب أو قلت بيتا من الشعر جاءتك جائزة ومن كانت هذه حاله لا ينبغي له الذهاب وكانه أخرجه مخرج المزاح والمداعبة فاجابه المتنبي بان كرم الممدوح ليس بسبب بقائي ولا يضر به ذهابي فكما ان هبوب الريح رهوا اي سهلا ليس باذني وسرى الغمام ليس بمشيئتي بل له طبع كذلك الممدوح الكرم له طبيعة. وأراد أبو العشائر سفرا فقال أبو الطيب عند توديعه إياه ارتجالا من أبيات:
الناس ما لم يروك أشباه * والدهر لفظ وأنت معناه والجود عين وفيك ناظرها * والبأس باع وفيك يمناه أفدي الذي كل مازق حرج * أغبر فرسانه تحاماه أعلى قناة الحسين أوسطها * فيه وأعلى الكمي رجلاه يقول أعلى قناة الحسين في ذلك المأزق أوسطها لأنه يحمل الكمي برمحه فيتأطر الرمح للينه حتى يصير أوسطه أعلاه ويكون الكمي منكسا:
تنشد أثوابنا مدائحه * بالسن ما لهن أفواه يعني ان أثوابنا التي خلعها علينا إذا رآها الناس علينا علموا فرط كرمه فكأنها تنشد مدائحه كما قال نصيب: ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب) يا راحلا كل من يودعه * موزع دينه ودنياه وقال قوم لأبي العشائر انه ما كناك وانما تعرف بكنيتك وهو اعتراض بارد فقال:
قالوا أ لم تكنه فقلت لهم * ذلك عي إذا وصفناه لا يتوقى أبو العشائر من لبس * معاني الورى بمعناه وأخرج إليه أبو العشائر درعا حسنا أراه إياه بميافارقين فقال أبو الطيب:
به وبمثله شق الصفوف * وزلت عن مباشرها الحقوف فدعه لقا فإنك من كرام * جواشنها الأسنة والسيوف وضرب لأبي العشائر مضرب بميافارقين على الطريق فكثر سائله وغاشيته فقال له انسان جعلت مضربك على الطريق فقال أحب ان تذكر هذا يا أبا الطيب فقال من أبيات:
لام أناس أبا العشائر في جود * يديه بالعين والورق وانما قيل لم خلقت كذا * وخالق الخلق خالق الخلق قالوا أ لم يكفه سماحته * حتى بنى بيته على الطرق فقلت ان الفتى شجاعته * تريه في الشح صورة الفرق الشمس قد حلت السماء وما * يحجبها بعدها عن الحدق وفي ديوان المتنبي انه دخل على المترجم يوما فوجده بيده بطيخة من ند في غشاء من خيزران على رأسها قلادة لؤلؤ فحياه المترجم بها وقال اي شئ تشبه هذه يا أبا الطيب فقال:
وبنية من خيزران ضمنت * بطيخة نبتت بنار في يد نظم الأمير لها قلادة لؤلؤ * كفعاله وكلامه في المشهد كالكأس باشرها المزاج فأبرزت * زبدا يدور على شراب اسود ثم إن المتنبي فسدت حاله مع أبي العشائر ففي نسخة من الديوان مخطوطة انه انتسب له بعض من رماه على باب سيف الدولة ليلا بعد قوله:
وا حر قلباه ممن قلبه شبم إلى أبي العشائر وذكر انه هو الذي امره بذلك ونحوه في شرح العكبري لديوان المتنبي. وفي الديوان المطبوع كان أبو العشائر قد غضب على أبي الطيب فأرسل غلمانا له ليوقعوا به فلحقوه بظاهر حلب ليلا فرماه أحدهم بسهم وقال خذه وانا غلام أبي العشائر فقال أبو الطيب:
ومنتسب عندي إلى من أحبه * وللنبل حولي من يديه حفيف فهيج من شوقي وما من مذلة * حننت ولكن الكريم ألوف وكل وداد لا يدوم على الأذى * دوام ودادي للحسين ضعيف فان يكن الفعل الذي ساء واحدا * فأفعاله اللائي سررن ألوف ونفسي له نفسي الفداء لنفسه * ولكن بعض المالكين عنيف فان كان يبغي قتلها يك قاتلا * بكفيه فالقتل الشريف شريف ويفهم من ذلك أن سبب غضب أبي العشائر عليه هو إساءته الأدب مع سيف الدولة في تلك القصيدة التي أولها: وا حر قلباه ممن قلبه شبم فان السبب في انشائه تلك القصيدة انه جرى له خطاب مع قوم متشاعرين وظن الحيف عليه والتحامل من سيف الدولة وربما يكون أبو فراس من أولئك الذين يسميهم المتنبي متشاعرين فغضب أبو العشائر لصهره ولابن عمه هذا مع احسانه العظيم إلى المتنبي وكونه السبب في اشتهاره واتصاله بسيف الدولة فهو ينسب سيف الدولة في تلك القصيدة إلى عدم العدل في معاملته بقوله:
يا اعدل الناس الا في معاملتي * فيك الخصام وأنت الخصم والحكم ثم يزيد في سوء الأدب فينسبه إلى أنه لا يفرق بين الجيد والردئ ولا بين النور والظلمة بقوله:
أعيذها نظرات منك صادقة * ان تحسب الشحم فيمن شحمه ورم وما انتفاع أخي الدنيا بناظره * إذا استوت عنده الأنوار والظلم ثم يفتخر في هذه القصيدة بما لا يفتخر به امام ملك كسيف الدولة وبما يقتضي انه خير منه بل خير من الأنبياء والمرسلين كقوله:
سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا * بأنني خير من تسعى به قدم انا الذي نظر الأعمى إلى أدبي * وأسمعت كلماتي من به صمم الخليل والليل والبيداء تعرفني * والسيف والرمح والقرطاس والقلم ثم يجئ بإساءة الأدب بلون آخر فينسب سيف الدولة إلى أنه يطلب عيبه ولا عيب فيه ويفعل ما يكرهه الله ويأباه الكرم بقوله: