ثم عزم على الإقامة فيها وارسل على كتبه وأثاثه وتبعه أصحابه.
وقيل إن سبب هجرته انه تضايق من وجود بعض الفرق الجاهلة فيها اي الزكرت والشمرت والذي يغلب على الظن ان السبب الوحيد الباعث له على الهجرة امر وراء ذلك هو أدق واسمى وابعد غورا مما يظن وهو إرادة الانفراد لانحياز سامراء وبعدها عن مجتمع العلماء ومن يدعي العلم فيتم له فيها ما لا يتم له في غيرها والقرب من الخاصة فيه العناء والتعب وفي البعد عنهم الراحة واجتماع الامر وقد قال أمير المؤمنين ع في عهده إلى الأشتر انه ليس أشد مؤونة على الوالي من الخاصة وربما يكون ما يحدث في النجف من الطائفتين وما حدث من بعض الأعيان مقويا للعزم على الهجرة اما ان يكون هو السبب الوحيد فلا وربما يكون من مقويات العزم أيضا إرادة عمران البلد وتسهيل أمور الزائرين الوافدين إليها ورفع ما كان يقع عليهم من المشقات.
فعمرت سامراء به وصارت إليها الرحلة وتردد الناس إليها وأمها أصحاب الحاجات من أقطار الدنيا وعمر فيها الدرس وقصدها طلاب العلوم وشيد فيها المدارس والدور ولكنها بعد وفاته عادت إلى سيرتها الأولى كما ستعرف واما مدرسة النجف فلم تتأثر بخروجه إلى سامراء بل بقيت عامرة حافلة بالطلاب والدروس فيها قائمة ومجالس الدروس عامرة كثيرة منتشرة ذلك لان الذين خرجوا معه إلى سامراء جماعة معدودون وجمهور الطلاب والعلماء ومعظمهم بقي في النجف والطلاب تقصدها من جميع الأقطار ولا تقصد سامراء حتى أحصيت طلاب النجف باثني عشر ألفا فيما يقال لكن ادرار النفقات والمشاهرات من سامراء لا ينقطع عن النجف.
عمران سامراء في عهده كانت سامراء قبل سكناه فيها بمنزلة قرية صغيرة فلما سكنها عمرت عمرانا فائقا وبنيت فيها الدور والأسواق وسكن فيها الغرباء ومن يطلب المعايش وكثر إليها الوافدون وصار فيها عدد من طلاب العلم والمدرسين لا يستهان به.
وكانت في أكثر الأوقات لا تزال محتشدة بالوافدين والزائرين حتى اضطر إلى الحجاب الا في أوقات مخصوصة يأذن فيها للناس إذنا عاما وللخواص منهم إذنا خاصا وكان لا يخرج من داره الا لزيارة المشهد وصلاة الجماعة وللحمام في أوقات مخصوصة وأهل درسه يقرأون عليه في داره.
وقد رأيته في سامراء مرتين الأولى سنة 1308 فوردناها وهي تعج عجيجا بالزائرين والقاصدين والدخول عليه لا يكون الا باذن وإذا كثر الزائرون خرج إلى دهليز داره فيوضع له كرسي ويجلس عليه في ثياب زهيدة الثمن ويأذن للناس إذنا عاما فيدخلون عليه ويسلمون وينصرفون ومن كانت له حاجة أو استفتاء أفضى بها اليه والثانية سنة 1311 دخلت اليه في داره مع جماعة وكان جالسا في صحن الدار على طنفسة وسألته عن مسالة فالتفت إلى الحاضرين وسال كلا منهم عنها ثم أجابني عنها وهذه كانت عادته مع كل من يسأله وكانت المسالة ان من نذر وتردد المنذور بين أمرين فقال يستخرج بالقرعة.
اعماله العمرانية في سامراء بنى فيها مدرسة كبيرة فخمة لطلاب العلم فيها إيوان كبير وغرف جمة ولها ساحة واسعة وبنى سوقا كبيرا بمال بذله بعض أغنياء الهند ولم يكن في سامراء جسر وكان الناس يعبرون في القفف من غربي دجلة إلى الجانب الشرقي الذي فيه المدينة وكذلك الدواب والأحمال وكان أصحاب القفف يشتطون في الأجرة ويلقى منهم الزوار اذى كثيرا فبنى جسرا محكما على دجلة من السفن بالطريقة المتبعة في العراق تسهيلا للعبور ورفقا بالزوار والواردين وكانت نفقته ألف ليرة عثمانية ذهبا وسلمة للدولة تتقاضى هي أجوره رجاء لدوامه وبنى عدة دور للمجاورين وبقيت هذه الاعمال قائمة مدة حياته وبعد وفاته بمدة قليلة بطلت كل هذه الاعمال ولم يوجد من يقوم مقامه في إدارة شؤونها ونزع الشيطان بينهم وتفرقوا أيدي سبا وتعطلت المدرسة وفي السنين الأخيرة أشرفت على الخراب وكذلك السوق واما الحسر فما زال أهل البلد يسعون في خرابه لأنه يضر بمنفعتهم المالية حتى خرب وعادوا إلى سيرتهم الأولى.
ولا بد هنا من القول بان الشيعة رغما من سخائهم في سبيل الخير وتميزهم بذلك لا يكون لاعمالهم الخيرية الأثر الكافي في الدوام والاستمرار ويكون عمر تلك الأعمال مقرونا بأعمار القائمين عليها من العلماء الأبرار ولعل الأثر في ذلك لعدم احكام أسباب دوامها.
ومع ما بذله المترجم من الجهود في عمران سامراء ودفع المشقات عن الزوار والاحسان إلى أهل سامراء الأصليين وما أسداه من البر إليهم وما أدر عليهم عمرانها وكثرة تردد الناس إليها من الرزق لم يتم له ما اراده وعادت البلدة بعد وفاته إلى سيرتها الأولى.
بل في أواخر أيام وجوده كثر التعدي حتى وصل اليه وكان ذلك بتحريك ممن لهم الحكم وممن يمت إليهم إذ تيقنوا انها ستنقلب عن حالها إلى حال أخرى فهيج ذلك من نفوسهم فوقعت عدة تعديات على الطلاب والمجاورين وعليه والحاكمون يظهرون المدافعة في الظاهر ويشجعون في الباطن فوقع لأجل ذلك اضطراب شديد وفتن وتعد على النفوس والأموال وغيرها وسافر لأجل ذلك إلى سامراء فقهاء النجف وعلماؤه وطلبوا اليه الخروج منها فأبى ولم تطل المدة حتى مرض وتوفي.
استغاثة السيد جمال الدين الأسدآبادي المتقمص بالأفغاني به لما نفي من إيران لما نفى الشاه ناصر الدين القاجاري السيد جمال الدين الأسدآبادي الحسيني من إيران ووصل بغداد ارسل إلى المترجم وهو في سامراء كتابا يذم فيه الشاه ويبالغ في سبه وشتمه ويستنجد بالمترجم عليه وقد ذكرنا الكتاب في ترجمة السيد جمال الدين في حرف الجيم من هذا الكتاب وكنا يومئذ في النجف ولم نسمع ان المترجم فاه في ذلك بكلمة لأنه كما قال القائل:
سارت مشرقة وسرت مغربا شتان بين مشرق ومغرب فسخ امتياز الدخان سلطان الدين أقوى من كل سلطان في سنة 1312 وهي سنة وفاته وقيل سنة 1309 اعطى الشاه ناصر الدين القاجاري امتياز حصر التوتن والتنباك لشركة انكليزية فشاع ان المترجم أفتى بتحرم التدخين بهما ولا بد ان يكون أفتى بذلك وان كانت صورة الفتوى لم تنتشر بين الناس فترك جميع أهل إيران التدخين وكسرت كل نارجيلة وكل آلة تستعمل للتدخين في بلاد إيران حتى أن نساء قصر