فنادى ابن خلدون بصوت عال يا مولانا الأمير الحمد لله لقد شرفت بحضوري الملوك وأحييت بتواريخي مآثرهم ورأيت من ملوك العرب وغيرهم فلانا وفلانا ولكن لله المنة قد طال عمري حتى رأيت من هو الملك على الحقيقة فإن كان طعام الملوك يؤكل لدفع الجوع فطعام مولانا الأمير يؤكل لذلك ولنيل الفخر والشرف. فاعجب تيمور كلامه واقبل بكله عليه وسأله عن ملوك العرب وأخبارهم فذكر له من ذلك ما بهره، وعن ابن الزملكاني تلميذ ابن خلدون ان ابن خلدون قال لما اجتمعت بتيمور في دمشق قال لي اين بلدك قلت بالغرب الجواني قال وما معنى الجواني في وصف المغرب قلت معناه الداخلي اي الأبعد لأن المغرب كله على ساحل البحر الشامي من جنوبه، فالأقرب إلى هنا برقة وإفريقية، والمغرب الأوسط تلمسان وبلاد زناته، و الأقصى فاس ومراكش وهو معنى الجواني، فقال لي وأين مكان طنجة من ملك المغرب فقلت في الزاوية التي بين البحر المحيط والخليج المسمى بالزقاق ومنها التعدية إلى الأندلس لقرب مسافته لأن هناك نحو العشرين ميلا فقال وسلجماسة فقلت في الحد ما بين الأرياف والرمال من جهة الجنوب، فقال لا يقنعني هذا و أحب ان تكتب لي بلاد المغرب كلها أقاصيها وأدنيها وجبالها وأنهارها وقراها و أمصارها، فقلت يحصل ذلك بسعادتك. فكتبت له بعد انصرافي من المجلس ما طلب، أقمت في كسر البيت وكتبته في أيام قليلة وأوعبت الغرض فيه مختصر وجيز يكون في اثنتي عشرة كراسة ودفعته اليه فاخذه من يدي وأمر موقعه بترجمته إلى اللسان المغلي، وهذا يدل على عقله وبعد نظره وانه ربما كان يخطر بباله فتح إفريقية كما فتح آسيا. ثم هرب ابن خلدون إلى مصر خوفا من أن يأخذه تيمور إلى بلاده.
قال ابن عربشاه فبينا هم كذلك في حضرة تيمور إذ جئ بالقاضي صدر الدين المناوي أسيرا وإذا هو بعمامة كالبرج واردان كالخرج وكان قد هرب مع السلطان فرج فأدركوه في ميسلون وقبضوا عليه وأحضروه إلى تيمور، فتخطى الرقاب وجلس في صدر المجلس، فاستشاط تيمور غضبا وامر بالقاضي صدر الدين فسحب، ثم خلع على كل من هؤلاء الأعيان وردهم مكرمين وأعطاهم الأمان لهم ولذويهم بشرط ان يدفعوا اليه أموال السلطان وأمرائه، ففعلوا ذلك.
قلعة دمشق قال واما القلعة فاستعد نائبها للحصار وكان اسمه ازدار فلم يلتفت تيمور في أول الأمر إليها وانصرف همه إلى تحصيل الأموال فنادى بالأمان وان لا يبغي أحد على أحد، فمد بعض عسكره يده إلى غارة بعد ما سمعوا هذا النداء، فبلغ ذلك تيمور فامر بصلبهم فصلبوا في الحريرين برأس سوق البزوريين ففرح الناس بذلك وفتحوا الباب الصغير ووزعوا هذه الأموال على الحارات، وكان الفصل شتاء فانتقل إلى القصر الأبلق ثم إلى بيت الأمير تيخاص وأمر بهدم القصر واحراقه ودخل المدينة من الباب الصغير وصلى الجمعة في جامع بني أمية وخطب به قاضي القضاة الحنفي محمود بن الكشك ونزل الله داد في دار ابن مشكور داخل الباب الصغير.
المناظرة بينه وبين علماء دمشق قال ووقع بين عبد الجبار بن النعمان الخوارزمي المعتزلي العالم الذي كان مع تيمور وكان يأتم به وبين علماء الشام لا سيما قاضي القضاة الحنبلي مناظرات ومباحثات وهو في ذلك كترجمانه يخاطبهم بلسانه فمنها وقائع علي ومعاوية ومنها أمور يزيد وقتله الحسين وان ذلك ظلم وفسق ومن استحله فهو كافر ولا شك ان ذلك كان بمظاهرة أهل الشام فان كانوا مستحليه فهم كفار والا فهم عصاة وان الحاضرين على مذهب الغابرين، فحصل منهم في ذلك أجوبة كثيرة منها ما رده ومنها ما قبله إلى أن اجابه القاضي محمد بن أبي الطيب كاتب السر فقال ان جدي توصل إلى رأس سيدنا الحسين ونظفه وغسله وطيبه ودفنه فلذلك كنوه بأبي الطيب. وقال ما سميتم بأولاد أبي الطيب الا لهذا؟ قال نعم. ومنها انه سألهم ما أعلى الدرجات درجة العلم أم النسب؟ فأجاب القاضي محمد الحنبلي النابلسي ان درجة العلم أعلى والدليل على ذلك اجماع الصحابة على تقديم أبي بكر على علي بن أبي طالب وقد قال ص لا تجتمع أمتي على ضلالة وجعل يحل ازراره واخذ في نزع ثيابه، فسأله تيمور عن ذلك، فقال إنه يخاف من شيعة عسكره ان يقتلوه لأجل هذا الكلام فهو يستعد للقتل، فقال تيمور لا يدخلن هذا مجلسي بعد اليوم انتهى ولا بد ان يكون جرى بينه وبين العلماء ما هو أكثر من هذا وابسط، لكن المؤرخين ذكروا هذه المجملات وطووا تفصيلها على غره، ولعله لأنهم لم يحبوا تفصيلها.
مال الأمان ثم طرح على المدينة أموال الأمان وفوض ذلك إلى أحد أركان دولته المدعو الله داد، وشرعوا في جمع الأموال من أهل الشام، وذلك في دار الذهب وهو مكان مشهور. وكثرت الوشايات والسعايات. وقال ابن تغري بردى طلب تيمور الطقزات اي التسعة الأصناف من المأكول والمشروب والملبوس وغيره، وهذه كانت عادته في كل بلد يفتحه صلحا، وقد مر له نظير عند ذكر رجوعه ثانيا إلى قفجاق فاجابه الدمشقيون إلى ما طلب باقناع ابن مفلح لهم، وتقرر ان يجبي تيمور من دمشق ألف ألف دينار ففرض على الناس فقاموا به من غير مشقة لكثرة أموالهم، فلم يرض تيمور وقال إن المطلوب بحساب بلاده وهو عشرة آلاف ألف دينار أو ألف تومان والتومان عبارة عن عشرة آلاف دينار من الذهب، قال ابن حجر واستقر الصلح على ألف ألف دينار، فتوزعت على أهل البلد ثم روجع تيمور فتسطخها، وقال إنه انما طلب ألف تومان، فنزل بالناس باستخراج هذا منهم ثانيا بلاء عظيم، ولما اخذه ابن مفلح وحمله إلى تيمور قال تيمور لابن مفلح وأصحابه هذا المال لحسابنا انما هو ثلاثة آلاف دينار وقد بقي عليكم سبعة آلاف دينار وظهر لي انكم عجزتم انتهى. فيظهر من هذا انه اكتفى باخذ ثلاثة آلاف دينار وصرف النظر عن الباقي. ثم سلمت أموال المصريين وكراعهم وسلاحهم وأموال الذين فروا من دمشق، ثم ألزمهم باخراج جميع ما في البلد من السلاح فأخرجوه.
حصار القلعة وأخذها قال ابن عربشاه وأما القلعة فاستعد نائبها للحصار، وكان اسمه ازدار، فلم يلتفت تيمور في أول الأمر إليها وانصرف همه إلى تحصيل الأموال، فلما فرع من ذلك استعد لحصار القلعة. وفي الشذرات ثم قام من الجامع وجد في حصار القلعة حتى أعياه امرها، ولم يكن بها يومئذ الا نفر يسير جدا، ونصب عليها عدة مجانيق وعمر تجاهها قلعة عظيمة من خشب فرمى من بالقلعة على القلعة التي عمرها بسهم فيه نار فاحترقت عن