دعت أبا فراس أن يقول فيه ذلك، ودعت سيف الدولة أن يميل إلى قبوله.
قال: فتأثر سيف الدولة من هذا الكلام وعمل فيه وكان المتنبي غائبا وبلغته القصة فدخل على سيف الدولة وانشده الأبيات التي أولها:
ألا ما لسيف الدولة اليوم عاتبا * فداء الورى أمضى السيوف مضاربا فأطرق سيف الدولة ولم ينظر إليه كعادته، فخرج المتنبي من عنده متغيرا، وحضر أبو فراس وجماعة من الشعراء فبالغوا في الوقيعة بحق المتنبي، وانقطع أبو الطيب بعد ذلك ونظم القصيدة التي أولها:
وا حر قلباه ممن قلبه شبم * ومن بجسمي وحالي عنده سقم هكذا في الصبح المنبي ولكن المفهوم من ديوان المتنبي أن قوله لهذه القصيدة الميمية سابق على الأبيات البائية المشار إليها وأن سبب قوله القصيدة الميمية أنه جرى له خطاب مع قوم متشاعرين وظن الحيف عليه والتحامل وأنه قال الأبيات البائية مستعتبا من القصيدة الميمية، وهذا أقرب إلى الصواب يقول فيها:
يا أعدل الناس إلا في معاملتي * فيك الخصام وأنت الخصم والحكم أعيذها نظرات منك صادقة * أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم وما انتفاع أخي الدنيا بناظره * إذا استوت عنده الأنوار والظلم سيعلم الجميع ممن ضم مجلسنا * بأنني خير من تسعى به قدم أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي * وأسمعت كلماتي من به صمم وجاهل مده في جهله ضحكي * حتى أتته يد فراسة وفم إذا رأيت نيوب الليث بارزة * فلا تظنن أن الليث يبتسم ومرهف سرت بين الجحفلين به * حتى ضربت وموج الموت يلتطم الخيل والليل والبيداء تعرفني * والسيف والرمح والقرطاس والقلم يا من يعز علينا ان نفارقهم * وجداننا كل شئ بعدكم عدم إن كان سركم ما قال حاسدنا * فما لجرح إذا أرضاكم ألم وبيننا لو رعيتم ذاك معرفة * ان المعارف في أهل النهى ذمم كم تطلبون لنا عيبا فيعجزكم * ويكره الله ما تأتون والكرم أرى النوى تقتضيني كل مرحلة * لا تستقل بها الوخادة الرسم لئن تركن ضميرا عن ميامننا * ليحدثن لمن ودعتهم ندم إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا * ان لا تفارقهم فالراحلون هم شر البلاد مكان لا صديق به * وشر ما يكسب الإنسان ما يصم وشر ما قنصته راحتي قنص * شهب البزاة سواء فيه والرخم بأي لفظ تقول الشعر زعنفة * تجوز عندك لا عرب ولا عجم هذا عتابك الا أنه مقة * تضمن الدر الا أنه كلم في الصبح المنبي أنه لما انشدها وجعل يتظلم من التقصير في حقه هم جماعة بقتله في حضرة سيف الدولة لشدة إدلاله وأعراض سيف الدولة عنه فلما وصل في انشاده إلى قوله:
يا أعدل الناس إلا في معاملتي * فيك الخصام وأنت الخصم والحكم قال أبو فراس مسخت قول دعبل وأدعيته وهو:
ولست أرجو انتصافا منك ما ذرفت * عيني دموعا وأنت الخصوم والحكم فقال المتنبي:
أعيذها نظرات منك صادقة * أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم فعلم أبو فراس أنه يعنيه فقال ومن أنت يا دعي كندة حتى تأخذ أعراض الأمير في مجلسه، واستمر في انشاده ولم يرد عليه إلى أن قال:
سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا * بأنني خير من تسعى به قدم أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي * وأسمعت كلماتي من به صمم فزاد ذلك أبا فراس غيظا وقال قد سرقت هذا من عمرو بن عروة بن العبد في قوله:
أوضحت من طرق الآداب ما اشتكلت * دهرا وأظهرت أغرابا وابداعا حتى فتحت باعجاز خصصت به * للعمي والصم أبصارا وأسماعا قال المؤلف: في قوله بأنني خير من تسعى به قدم دعوى الفضل على الأنبياء والرسل فضلا عن سيف الدولة. ولما وصل إلى قوله:
الخيل والليل والبيداء تعرفني * والسيف والرمح والقرطاس والقلم قال أبو فراس وما ذا أبقيت للأمير إذا وصفت نفسك بالشجاعة والفصاحة والرياسة والسماحة تمدح نفسك بما سرقته من كلام غيرك وتأخذ جوائز الأمير أ ما سرقت هذا من قول الهيثم بن الأسود النخعي الكوفي المعرف بابن عريان العثماني:
أعاذلتي كم مهمه قد قطعته * أليف وحوش ساكنا غير هائب انا ابن الفلا والطعن والضرب والسري * وجرد المذاكي والقنا والقواضب حليم وقور في البلاد وهيبتي * لها في قلوب الناس بطش الكتائب فقال المتنبي:
وما انتفاخ أخي الدنيا بناظره * إذا استوت عنده الأنوار والظلم فقال أبو فراس وهذا سرقته من قول معقل العجلي:
إذا لم أميز بين نور وظلمة * بعيني فالعينان زور وباطل وغضب سيف الدولة من كثرة مناقشته في هذه القصيدة وكثرة دعاويه فيها فضربه بالدواة التي بين يديه فقال المتنبي في الحال:
إن كان سركم ما قال حاسدنا * فما لجرح إذا أرضاكم ألم فقال أبو فراس أخذت هذا من قول بشار:
إذا رضيتم بان نجفي وسركم * قول الوشاة فلا شكوى ولا ضجر فلم يلتفت سيف الدولة إلى ما قال أبو فراس وأعجبه بيت المتنبي ورضي عنه في الحال وأدناه إليه وقبل رأسه واجازه بألف دينار ثم اردفه بألف أخرى فقال المتنبي وليسا في ديوانه:
جاءت دنانيرك مختومة * عاجلة ألفا على ألف أشبهها فعلك في فيلق * قلبته صفا على صف وإذا تأملنا في هذه القصيدة الميمية وجدنا ان سيف الدولة قد حلم كثيرا عن المتنبي فإنه أراد ان يعاتبه بها لكنه بهذا العتاب هجاه هجوا مرا وافتخر عليه حتى ادعى انه فوقه في كل شئ، فنسبه إلى الجور عليه وعدم انصافه وانه لا يميز بين الشحم والورم والأنوار والظلم وانه يتطلب له العيوب فلا يجد، وانه ساوى بين البزاة والرخم وانه يساوي بين جيد الشعر ورديه وان بلاده شر البلاد عليه وكسبه فيها شر كسب، وأي هجاء أمر من هذا، وادعى عن نفسه انه خير من يمشي على قدم ولم يستثن سيف الدولة بل عمت دعواه بظاهرها الأنبياء والمرسلين، وهذا لا يقال بحضرة الملوك والامراء ولا يحتملونه، وافتخر بالشجاعة والفصاحة والبلاغة إلى