الأرواح المبشر بقرب المزار من أشرف الديار، تسابق الزوار إليه، وتعالوا بالصعود عليه استعجالا لمشاهدة تلك الآثار واقتباسا لمشاهدة تلك الأنوار فبرقت لوامع الأنوار النبوية، وهبت عرف نسمات المعارف المحمدية، فطبنا وغبنا إذ شهدنا أعلام ديار أشرف البرية.
ولما قربنا من ديار المدينة وأعلامها، وتدانينا من معاينة رباها الكريمة وآكامها، وانتشقنا عرف لطائف أزهارها، وبدت لناظرنا بوارق أنوارها، وترادفت واردات المنح والعطايا، ونزل القوم عن المطايا، فأنشدت متمثلا:
أتيتك زائرا وودت أني * جعلت سواد عيني أمتطيه وما لي لا أسير على المآقي * إلى قبر رسول الله فيه ويستحب صلاةركعتين تحية المسجد قبل الزيارة، وهذا إذا لم يكن مروره من جهة وجهه الشريف صلى الله عليه وسلم.
فإن كان استحب الزيارة قبل التحية. قال في " تحقيق النصرة " وهو استدراك حسن. قاله بعض شيوخنا.
وفي منسك ابن فرحون: فإن قلت: المسجد إنما تشرف بإضافته إليه صلى الله عليه وسلم فينبغي البداءة بالوقوف عنده صلى الله عليه وسلم. قلت: قال ابن حبيب في أول كتاب الصلاة: حدثني مطرف عن مالك عن يحيى بن سعيد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قدمت من سفر، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلم عليه وهو بفناء المسجد، فقال:
أدخلت المسجد فصليت فيه؟ قلت: لا، قال: فاذهب فادخل المسجد وصل فيه، ثم ائت فسلم على.
قال: ورخص بعضهم في تقديم الزيارة على الصلاة. قال ابن الحاج: وكل ذلك واسع ولعل هذا الحديث لم يبلغهم، والله أعلم. انتهى. (المواهب اللدنية) مختصرا.
وينبغي للزائر أن يستحضر الخشوع ما أمكنه، وليكن مقتصدا في سلامه بين الجهر والإسرار. وفي البخاري: أن عمر رضي الله عنه قال لرجلين من أهل الطائف: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما ضربا، ترفعان أصواتكما في مسجدرسول الله صلى الله عليه وسلم؟
وقد روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: لا ينبغي رفع الصوت على نبي حيا ولا ميتا. وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تسمع صوت الوتد يوتد والمسمار يضرب في بعض الدور المطيفة بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم فترسل إليهم: لا تؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قالوا: وما عمل علي بن أبي طالب رضي الله عنه مصراعي داره إلا بالمصانع توقيا لذلك. نقله ابن زبالة فيجب الأدب معه كما في حياته.
وينبغي للزائر أن يتقدم إلى القبر الشريف من جهة القبلة، وإن جاء من جهة رجلي الصاحبين فهو أبلغ في الأدب من الإتيان من جهة رأسه المكرم. ويستدبر القبلة ويقف قبالة وجهه صلى الله عليه وسلم بأن يقابل المسمار.
وقد روى ابن المبارك عن سعيد بن المسيب: ليس من يوم إلا ويعرض على النبي صلى الله عليه وسلم أعمال أمته غدوة وعشية، فيعرفهم بسيماهم وأعمالهم، فلذلك يشهد عليهم.
ويمثل الزائر وجهه الكريم صلى الله عليه وسلم في ذهنه، ويحضر قلبه جلال رتبته، وعلو منزلته، وعظيم حرمته، وإن أكابر الصحابة ما كانوا يخاطبونه إلا كأخي السرار، تعظيما لما عظم الله من شأنه.
وقد روى ابن النجار أن امرأة سألت عائشة رضي الله عنها: أن اكشفي لي عن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فكشفته فبكت حتى ماتت.
وحكي عن أبي الفضائل الحموي، أحد خدام الحجرة المقدسة، أنه شاهد شخصا من الزوار الشيوخ، أتي باب مقصورة الحجرة الشريفة، فطأطأ رأسه نحو العتبة، فحركوه فإذا هو ميت، وكان ممن شهد جنازته.
ثم يقول الزائر بحضور قلب، وغض بصر وصوت، وسكون جوارح وإطراق: السلام عليك يا رسول الله، السلام عيك يا نبي الله، السلام عليك يا حبيب الله، السلام عليك يا خيرة الله، السلام عليك يا صفوة الله، السلام عليك يا سيد المرسلين، وخاتم النبيين، السلام عليك يا قائد الغر المحجلين، السلام عليك وعلى أهل بيتك الطيبين الطاهرين، السلام عليك وعلى أزواجك الطاهرات أمهات المؤمنين، السلام عليك وعلى أصحابك أجمعين، السلام عليك وعلى سائر الأنبياء وسائر عباد الله الصالحين، جزاك الله عنا يا رسول الله أفضل ما جازى نبيا ورسولا عن أمته، وصلى الله عليك كلما ذكرك الذاكرون، وغفل عن ذكرك الغافلون، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك عبده ورسوله وأمينه، وخيرته من خلقه، وأشهد أنك قد بلغت الرسالة وأديت الأمانة ونصحت الأمة وجاهدت في الله حق جهاده. ومن ضاق وقته عن ذلك، أو عن حفظه فليقل ما تيسر منه، أو مما يحصل به الغرض.
وفي " التحفة " أن ابن عمر وغيره من السلف كانوا يقترفون ويوجزون في هذا جدا. فعن مالك بن أنس، إمام دار الهجرة، وناهيك به خبرة بهذا الشأن من رواية ابن وهب عنه، يقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته.
وعن نافع عن ابن عمر، أنه كان إذا قدم من سفر دخل المسجد، ثم أتى القبر المقدس فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه.
وينبغي أن يدعو، ولا يتكلف السجع فإن ذلك قد يؤدي إلى الإخلال بالخشوع.
وقد روى أبو داود من حديث أبي هريرة: أنه صلى الله عليه وسلم قال: ما من مسلم يسلم على إلا رد الله على روحي حتى أرد عليه السلام.
وعند ابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة مرفوعا: من صلى على عند قبري سمعته، ومن صلى على نائيا بلغته. وعن سليمان بن سحيم، مما ذكره القاضي عياض في " الشفاء " قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فقلت: يا رسول الله، هؤلاء الذين يأتونك فيسلمون عليك أتفقه سلامهم؟ قال: نعم وأرد عليهم.
ولا شك أن حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ثابتة معلومة.
وقد روى الدارمي عن سعيد بن عبد العزيز قال: لما كان أيام الحرة، لم يؤذن في مسجدالنبي صلى الله عليه وسلم، ولم يبرح سعيد بن المسيب من المسجد، وكان لا يعرف وقت الصلاة إلا بهمهمة يسمعها من قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر ابن النجار وابن زبالة بلفظ قال سعيد - يعني ابن المسيب -: فلما حضرت الظهر سمعت الأذان في القبر، فصليت ركعتين، ثم سمعت الإقامة فصليت الظهر، ثم مضى ذلك والإقامة في القبر المقدس لكل صلاة حتى مضت الثلاث ليال، يعني ليالي أيام الحرة.
وقد روى البيهقي وغيره: من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون.
وفي رواية: أن الأنبياء لا يتركون في قبورهم بعد أربعين ليلة، ولكنهم يصلون بين يدي الله حتى ينفخ في الصور.
وله شواهد في صحيح مسلم منها: قوله صلى الله عليه وسلم: مررت بموسى وهو قائم يصلي في قبره. وفي حديث أبي ذر في قصة المعراج: أنه لقي الأنبياء في السماوات، وكلموه وكلمهم. وقد ذكرت مزيد بيان لذلك في حجة الوداع من مقصد عباداته، وفي ذكر الخصائص الكريمة في مقصد معجزاته، وفي مقصد الإسراء والمعراج.