الفصول الغروية في الأصول الفقهية - الشيخ محمد حسين الحائري - الصفحة ٢٨٣
إنما جعل تلك العمومات مؤكدة ومؤيدة لقطع العقل بالبراءة عند عدم الدليل ولم يجعلها دليلا مستقلا ولو سلم فهي من الأدلة الظنية التي قام على حجيتها قاطع إذ الاجماع منعقد على حجية ظواهر الكتاب حيث لا تعارضها ما ثبت عند العامل بها كونه معارضا ودلالة الاخبار وإن كانت ظنية إلا أن الاجماع منعقد على حجية الظن في الألفاظ عند عدم ثبوت المعارض وقد مر الإشارة إلى ذلك مرارا الخامس أن قوله يحكم بجواز تركه إلى آخره إن أراد نفي الوجوب مع عدم الحكم بالاستحباب فهو لا ينطبق على مقصوده لمنافاة ذلك لما ثبت من الشرع يقينا وإن أراد نفي الوجوب مع عدم الحكم بالاستحباب فهذا إنما يصح بترجيح الحديث الدال على الاستحباب على الحديث الدال على الوجوب بسبب اعتضاده بأصل البراءة وفيه كر على ما فر وإن أراد إثبات الرجحان بالاجماع ونفي المنع من الترك بالأصل ليتحقق الاستحباب ففيه أنه على تقدير أن يكون الرجحان الثابت في نفس الامر الرجحان الثابت في ضمن الوجوب كما هو أحد الاحتمالين لا جرم يكون الرجحان متقوما بالمنع من الترك فمع نفيه بالأصل ينتفي الرجحان أيضا إذ لا بقاء للجنس بدون الفصل فكيف يحكم بالاستحباب فاتضح أن غسل الجمعة من قبيل الجهر بالبسملة والاخفات بها على ما فهمه حيث إن الخبر الظني فيه ليس في مقابلة أصل البراءة وهذا أيضا ضعيف إذ للمورد أن يختار القسم الثالث كما هو الظاهر من كلامه فيثبت الرجحان بالاجماع و جواز الترك بالأصل وما زعمه من أن ذلك يؤدي إلى بقاء الجنس بدون الفصل على تقدير أن يكون فصله المنع من الترك فمدفوع بأن الممتنع بقاء الجنس مع انتفاء فصله الخاص في الواقع لا بقاؤه مع عدم ثبوت فصله الخاص إلا أن يقال عدم ثبوت فصل الوجوب أعني المنع من الترك يستلزم عدمه في الواقع إذ لا تكليف إلا بعد البيان وإن أطلق الوجوب أو التكليف مجازا أو اصطلاحا فإن الكلام في المعاني دون الألفاظ فنقول لا خفاء هنا في ثبوت الجنس متقوما بأحد الفصلين في الواقع وإنما الشك في تعيينه المعتبر في فعليته و تعلقه فنفي أحدهما بالأصل الذي هو في معنى إثبات الاخر به طريق إلى تعيين ما يتقوم به الجنس لا رفع لما تقوم به في الواقع وفيه أن الأصل المثبت لا تعويل عليه بل التحقيق في الجواب أن العلم بتحقق الرجحان في ضمن أحد النوعين واقعا ولو مشروطا فعليته بعلم المكلف يستلزم بالضرورة تحقق الرجحان الفعلي ظاهرا في ضمن ما يؤدي إليه طريق المكلف من الوجوب والاستحباب فإذا اعتبرنا أصل البراءة طريقا إلى نفي المنع من النقيض دون الاحتياط طريقا إلى إثباته يثبت الاستحباب لتكامل أجزائه فإن الثابت ظاهرا مغاير للرجحان الثابت واقعا ومن هذا البيان تظهر أن الاستحباب الثابت في المقام حكم ظاهري لا ملفق منه ومن الواقعي فاتضح أن التمثيل بغسل الجمعة هو المطابق لفرض المورد حيث أراد بيان طريق التخلص عن العمل بخبر الواحد حيث يدور الامر بين الوجوب والاستحباب كما لا يخفى السادس قوله فيما لم يكن له مندوحة إلخ إن أراد التخيير بمعنى الإباحة ففيه أن دليل القولين يتساقطان بعد التعارض فلا يبقى شئ في مقابل أصل البراءة حتى يعدل عنه إلى الأصل لظنيته بل الكلام في جريان الأصل هنا كالكلام فيه حيث لا نص فيه فإنه لا معارض للأصل في ذلك لأدلة الاحتياط وهي مما لا يلتزم بها المستدل ولا المورد وإن أراد التخيير في العمل بأحد القولين حتى إنه إذا اختار أحدهما تعين عليه كما في التخيير بين الدليلين أو الرجوع إلى المجتهدين فهذا مما لا معنى لأصل البراءة فيه لثبوت التكليف فيه على كل من التقديرين وهذا أيضا ضعيف جدا إذ المورد أن يختار الشق الأول ويدفع الاشكال المورد عليه بأن كلا من الدليلين وإن أمكن اعتباره في مقابلة الاخر فيتساقطان ويبقى الأصل سليما عن المعارض لكن يمكن اعتباره في مقابلة الأصل أيضا فيسقط ويتعين العمل بالأصل وبالجملة فكل من الدليلين ساقط عن درجة الاعتبار باعتبارين من معارضته لمثله ومخالفته للأصل وتمثيل المورد به مبني على اعتبار الثاني مع أن الدليلين المتعارضين قد يكون الظن مع أحدهما أقوى فلا يلزم تساقطهما بالنظر إلى نفسهما فإن قلت العلم بالأصل هنا ينافي العلم الاجمالي بالتكليف قلت للمورد أن يمنع التكليف الفعلي مع عدم التمكن من الوصول وله أن يختار الشق الثاني ويدفع الاشكال المورد عليه بأن الغرض من البيان المذكور ليس طرح ما يقابل الأصل من الدليل الظني والعمل به بل المقصود بيان كيفية التخليص بناء على عدم التعويل على الظن في مثل المورد المذكور وهذا ظاهر فاتضح مما قررنا أن هذه الاعتراضات غير ناهضة بدفع الايراد المذكور بل التحقيق في دفعه ما قررناه أولا من أن المقطوع به من الطريقة هو التكليف الفعلي بالعمل بمؤدى أدلة مخصوصة وحيث لا سبيل لنا إلى تحصيلها بطريق العلم فيتعين و التعويل على الظن فإن قلت للمورد أن يقول لا نسلم أنه إذا انسد باب العلم إلى معرفة تلك الطرق وجب العمل بالظن لجواز أن يقتصر على وجوب العمل بمقتضى الطرق القطعية ويعول على أصل البراءة فيما عداها قلت إن أردت من الأصل براءة الذمة عن العمل بسائر الأدلة حتى بالأصل فهو غير معقول إذ لا بد في كل واقعة من حكم ولو في الظاهر ولا بد له من دليل يتوصل به إليه ولا أقل من الأصل و إن أردت أن الأصل البراءة في غير تلك المورد فهذا غير سديد إذ وجوب العمل بالأصل مشارك لوجوب العمل بسائر الأدلة في كونه مخالفا للأصل فيبقى الترجيح من غير مرجح نعم لو قدر الظن بذلك صح التعويل عليه ولا كلام لنا حينئذ لكنه كما ترى ويمكن دفع الايراد المذكور أيضا بدعوى القطع بعدم مساعدة الطريقة الملقاة من صاحب الشريعة على جواز التعويل على الطريق المذكور في هذا الزمان لأدائها غالبا إلى تفويت كثير من الاحكام فينحل بمقصوده فتدبر ثم على هذا الوجه بالتقرير المذكور إشكالان الأول أن مقتضاه حجية جميع الظنون المتعلقة بالأحكام وهو باطل للقطع بعدم حجية بعض الظنون كالظن الحاصل من القياس والاستحسان و لا سبيل إلى إخراجهما بالاجماع لان القواعد العقلية لا تقبل التخصيص وأيضا مفاده حجية الظن من حيث كونه ظنا وهذه جهة واحدة فإن صحت صحت في الكل وإن بطلت بطلت في الكل لأنها جهة تعليلية فإن تمت وجب أن لا يتخلف عن مقتضاها في مواردها وأجاب عنه الفاضل المعاصر بوجوه الأول المنع من حصول الظن بالقياس و الاستحسان بعد ما ورد في الشرع من النهي عن العمل بهما وحينئذ فلا حاجة إلى التخصيص وفيه نظر لان نهي الشارع عن العمل بمقتضاهما لا يوجب عدم حصول الظن بهما فإن الظن أمر وجداني يضطر إليه النفس عند
(٢٨٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 278 279 280 281 282 283 284 285 286 287 288 ... » »»