تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١٨ - الصفحة ٢٤٦
سبق عذاب وهو مختص بهم وليس بذاك، والترديد والتفضيل في * (خير) * مع أنه لا شك في أنه لا خيرية في السعير للتهكم والتقريع كما أشرنا إليه.
وقال ابن عطية: حيث كان الكلام استفهاما جاز فيه مجيء لفظة التفضيل بين الجنة والسعير في الخير لأن الموقف جائز له أن يوقف محاوره على ما شاء ليرى هل يجيبه بالصواب أو بالخطأ، وإنما منع سيبويه وغيره من التفضيل إذا كان الكلام خيرا لأن فيه مخالفة الواقع، وأما إذا كان استفهاما فذلك سائغ، وقال أبو حيان: إن * (خير) * هنا ليس للدلالة على الأفضلية بل هو على ما جرت به عادة العرب في بيان فضل الشيء وخصوصيته بالفضل دون مقابله كقول حسان: فشركما لخيركما الفدا وقولهم الشقاء أحب أليك أم السعادة والعسل أحلى من الخل، وقوله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام * (السجن أحب إلى) * ولا اختصاص لذلك في استفهام أو خبر.
وما ذكر من أمثلة الخبر يرد على ابن عطية إلا أن يقيد الخير الذي ادعى منه سيبويه فيه بما لم يكن الحكم فيه واضحا أما إذا كان الحكم فيه واضحا للسامع بحيث لا يختلج في ذهنه ولا يتردد في الأفضل فإن التفضيل يجوز فيه، وقد تقدم تحقيق الكلام في هذا المقام وما أشرنا إليه هنا أولى بالاعتبار مما أشار ابن عطية وأبو حيان إليه.
* (كانت) * تلك الجنة * (لهم) * أي في علم الله تعالى أو في اللوح أو المراد تكون على أنه وعد من أكرم الأكرمين عبر عنه بالماضي على طريق الاستعارة لتحقيق وقوعه فإنه سبحانه لا يخلف الميعاد، وجوز أن يكون هذا باعتبار تقدم وعده تعالى في كتبه وعلى لسان رسله عليهم الصلاة والسلام أياهم بها * (جزاء) * على أعمالهم بمقتضى الوعد لا بالإيجاب * (ومصيرا) * ينقلبون إليه، ولم يكتف بقوله تعالى: * (كانت لهم جزاء) * لعدم استلزامه ذلك فقد يثبت الملك في الدنيا إنسانا ببستان مثلا ولا يرأه فضلا عن أن يسكن فيه، وجملة * (كانت لهم) * الخ على ما ذكره الطبرسي في موضع الحال من الضمير المحذوف العائد على الموصول في * (وعد المتقون) * بتقدير قد أو بدونه، وجوز أن تكون بدلا من * (وعد المتقون) * وتفسيرا له، وأن تكون استئنافا في موضع التعليل.
وذكر الزمخشري ما يشعر بأن هذه الجملة تذييل لتذكير النعمة بما خولهم الله تعالى وطيب عيشهم في ذلك المكان الرافع على وجه يتضمن ضد ذلك لأضدادهم فكأنه قيل كلنت لهم جزاء موفورا لا يدخل تحت الوصف ومصيرا أي مصيرا لا يقادر قدره وليس كمصير الكفرة المشار إليه بقوله سبحانه: * (وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا) * (الفرقان: 13) ويعلم منه فائدة ذكر المصير مع ذكر الجزاء فتأمل، وقوله سبحانه: * (لهم فيها ما يشاءون) * قيل استئناف وقع جوابا لسؤال نشأ مما قبله حيث أفاد أن الجنة مسكن لهم والساكن في دار يحتاج إلى أشياء كثيرة لتطيب نفسه بسكناها فكأن سائلا يقول: ما لهم إذا صاروا إليها وسكنوا فيها؟ فقيل لهم فيها ما يشاؤون، وقال الطبرسي: الجملة في موضع الحال من قوله تعالى: * (المتقون) * وما موصولة مبتدأ والعائد محذوف و * (لهم) * خبره) * و * (فيها) * متعلق بما تعلق به أي كائن لهم فيها الذي يشاؤونه من فنون الملاذ والمشتهيات وأنواع النعيم الورحاني والجسماني، ولعل كل فريق يقتنع بما أبيح له من درجات النعيم ويرى ما هو فيه ألذ الأشياء ولا تمتد أعناق هممهم إلى ما فوق ذلك من المراتب العالية ولا يخطر بباله ما يخطر طلبة ولا يتأتى له فلا يشاء آخاد المؤمنين رتبة الأنبياء عليهم السلام ولا يتعرضون للشفاعة لمن كتب عليه الخلود في النار مثلا فلا يلزم الحرمان ولا تساوي مراتب أهل الجنان، وعلى ضد هؤلاء فيما ذكر أهل النار فقد قال سبحانه فيهم * (وحيل بينهم وبين ما يشتهون) * (سبأ: 54).
(٢٤٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 241 242 243 244 245 246 247 248 249 250 251 ... » »»