تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ١٦
إلا المعصية. والظاهر بقاء الأكثر على حقيقته فقيل: وأكثرهم، لأن منهم من قضى الله له بالإيمان. وقيل: لأن منهم من له حفظ لمراعاة الحال الحسنة من التعفف عما يثلم العرض، ويجر أحدوثة السوء، وأكثرهم خبثا لأنفس خريجون في الشر لا مروءة تردعهم، ولا طباع مرضية تزعهم، لا يحترزون عن كذب ولا مكر ولا خديعة، ومن كان بهذا الوصف كان مذموما عند الناس وفي جميع الأديان. ألا ترى إلى أهل الجاهلية وهم كفار كيف يمدحون أنفسهم بالعفاف وبالصدق وبالوفاء بالعهد وبالأخلاق الحسنة. وقيل: معنى وأكثرهم وكلهم فاسقون، قاله ابن عطية والكرماني.
* (اشتروا بئايات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون) * الظاهر عود الضمير على من قبله من المشركين المأمور بقتلهم، ويكون المعنى: اشتروا بالقرآن وما يدعو إليه من الإسلام ثمنا قليلا، وهو اتباع الشهوات والأهواء لما تركت دين الله وآثرت الكفر، كان ذلك كالشراء والبيع. وقال مجاهد: هم الأعراب الذين جمعهم أبو سفيان على طعامه. وقال أبو صالح: هم قوم من اليهود، وآيات الله التوراة. وقال ابن عباس: هم أهل الطائف كانوا يمدون الناس بالأموال يمنعونهم من الدخول في الإسلام، فصدوا عن سبيله أي صرفوا أنفسهم عن دين الله وعدلوا عنه. والظاهر أن ساء هنا محولة إلى فعل. ومذهب بابها مذهب بئس، ويجوز إقرارها على وصفها الأول، فتكون متعدية أي: أنهم ساءهم ما كانوا يعملون، فحذف المفهوم لفهم المعنى.
* (لا * يرقبون فى مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون) * هذا تنبيه على الوصف الموجب للعداوة وهو الإيمان، ولما كان قوله: * (لا يرقبوا فيكم) * يتوهم أن ذلك مخصوص بالمخاطبين، نبه على علة ذلك، وأن سبب المنافاة هو الإيمان، وأولئك أي الجامعون لتلك الأوصاف الذميمة هم المعتدون المجاوزون الحد في الظلم والشر ونقض العهد.
* (فإن تابوا وأقاموا الصلواة وءاتوا الزكواة فإخوانكم في الدين) * أي فإن تابوا عن الكفر ونقض العهد والتزموا أحكام الإسلام فإخوانكم، أي: فهم إخوانكم، والإخوان، والإخوة جمع أخ من نسب أو دين. ومن زعم أن الإخوة تكون في النسب، والإخوان في الصداقة، فقد غلط. قال تعالى: * (إنما المؤمنون إخوة) * وقال: أو بيوت إخوانكم، وعلق حصول الأخوة في الدين على الالتباس بمجموع الثلاثة، ويظهر أن مفهوم الشرط غير مراد.
* (ونفصل الايات لقوم يعلمون) * أي نبينها ونوضحها. وهذه الجملة اعتراض بين الشرطين، بين قوله: فإن تابوا، وقوله: وإن نكثوا، بعثا وتحريضا على تأمل ما فصل تعالى من الأحكام، وقال لقوم يعلمون لأنه لا يتأمل تفصيلها إلا من كان من أهل العلم والفهم.
* (وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا فى دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون) * أي: وإن نقضوا إقسامهم من بعدما تعاهدوا وتحالفوا على أن لا ينكثوا. وطعنوا: أي عابوه وثلبوه واستنقصوه. والطعن هنا مجاز، وأصله الإصابة بالرمح أو العود وشبهه، وهو هنا بمعنى العيب كما جاء في حديث إمارة أسامة: (إن تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبل) أي عبتموها واستنقصتموها. والظاهر أن هذا الترديد في الشرطين هو في حق الكفار أصلا، لأن من أسلم ثم ارتد فيكون قوله: فقاتلوا أئمة الكفر، أي رؤساء الكفر وزعماءه. والمعنى: فقاتلوا الكفار، وخص الأئمة بالذكر لأنهم هم الذين يحرضون الأتباع على البقاء على الكفر. وقال الكرماني: كل كافر إما نفسه، فالمعنى فقاتلوا كل كافر. وقيل: من أقدم على نكث العهد والطعن في الدين صار رأسا في الكفر، فهو من أئمة الكفر. وقال ابن عباس: أئمة الكفر زعماء قريش. وقال القرطبي: هو بعيد، لأن الآية في سورة براءة، وحين نزلت كان الله قد استأصل شأفة
(١٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 ... » »»