تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ١٥
تحتاج إلى الفاء. وقد أجاز ابن مالك في المصدرية الزمانية أن تكون شرطية وتجزم، وأنشد على ذلك ما يدل ظاهره على صحة دعواه. وقد ذكرنا ذلك في كتاب التكميل، وتأولنا ما استشهد به. فعلى قوله تكون زمانية شرطية: أن الله يحب المتقين، يعني أن الوفاء بالعهد من أخلاق المتقين، والتربص بهؤلاء إن استقاموا من أعمال المؤمنين، والتقوى تتضمن الإيمان والوفاء بالعهد.
* (كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون) * كيف تأكيد لنفي ثباتهم على العهد. والظاهر أن الفعل المحذوف بعدها هو من جنس أقرب مذكور لها، وحذف للعلم به في كيف السابقة، والتقدير: كيف لهم عهد وحالهم هذه؟ وقد جاء حذف الفعل بعد كيف لدلالة المعنى عليه كقوله تعالى: * (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد) *. وقال الشعر:
ضع وخبرتماني إنما الموت بالقرى فكيف وهاتا هضبة وكثيب * أي: فكيف مات وليس في قرية؟ وقال الحطيئة:
* فكيف ولم أعلمهم خذلوكم * على معظم وأن أديمكم قدوا * أي فكيف تلومونني على مدحهم؟ واستغنى عن ذلك لأنه جرى في القصيدة ما دل على ما أضمر. وقدر أبو البقاء الفعل المحذوف بعد كيف بقوله: كيف تطمئنون إليهم؟ وقدره غيره: كيف لا يقتلونهم؟ والواو في (وإن يظهروا) واو الحال. وتقدم الكلام على وقوع جملة الشرط حالا في قوله: * (وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه) * ومعنى الظهور العلو والظفر، تقول: ظهرت على فلان علوته. والمعنى: وإن يقدروا عليكم ويظفروا بكم. وقرأ زيد بن علي: وإن يظهروا مبنيا للمفعول. لا يرقبوا: لا يحفظوا ولا يرعوا إلا عهدا أو قرابة أو حلفا أو سياسة أو الله تعالى، أو جؤارا أي: رفع صوت بالتضرع، أقوال.
قال مجاهد وأبو مجلز: إن اسم الله بالسريانية وعرب. ومن ذلك قول أبي بكر حين سمع كلام مسيلمة، فقال: هذا كلام لم يخرج من إل. وقرأت فرقة: ألا بفتح الهمزة، وهو مصدر من فعل الأل الذي هو العهد. وقرأ عكرمة: إيلا بكسر الهمزة وياء بعدها، فقيل: هو اسم الله تعالى. ويجوز أن يراد به إلى أبدل من أحد المضاعفين ياء، كما قالوا في: إما إيما. قال الشاعر:
* يا ليتما أمنا سالت نعامتها * إيما إلى الجنة إيما إلى نار * قال ابن جني: ويجوز أن يكون مأخوذا من آل يؤول إذا ساس، أبدل من الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها، أي: لا يرقبون فيكم سياسة ولا مداراة ولا ذمة، من رأى أن الإل هو العهد جعله والذمة لفظين لمعنى واحد أو متقاربين، ومن رأى أن الإل غير العهد فهما لفظان متباينان. ولما ذكر حالهم مع المؤمنين أن ظهروا عليهم ذكر حالهم معهم ذا كانوا غير ظاهرين، فقال: يرضونكم بأفواههم. واستأنف هذا الكلام أي: حالهم في الظاهر يخالف لباطنهم، وهذا كله تقرير واستبعاد لثبات قلوبهم على العهد، وإباء القلب مخالفته لما يجري على اللسان من القول الحسن. وقيل: يرضونكم بأفواههم في العدة بالإيمان، وتأبى قلوبهم إلا الكفر. وقيل: يرضونكم في الطاعة، وتأبى قلوبهم
(١٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 ... » »»