أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٦١٥
في قوله تعالى: (شهادة بينكم) قال: " كان ذلك في رجل توفي وليس عنده أحد من أهل الاسلام، وذلك في أول الاسلام والأرض حرب والناس كفار، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فكان الناس يتوارثون بالمدينة بالوصية ثم نسخت الوصية وفرضت الفرائض وعمل المسلمون بها ". وروي عن إبراهيم النخعي قال: هي منسوخة، نسختها:
(وأشهدوا ذوي عدل منكم) [الطلاق: 2]. وروى ضمرة بن جندب وعطية بن قيس قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المائدة من آخر القرآن نزولا فأحلوا حلالها وحرموا حرامها ".
قال جبير بن نفير عن عائشة، قالت: " المائدة من آخر سورة نزلت فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه وما وجدتم من حرام فاستحرموه ". وروى أبو إسحاق عن أبي ميسرة قال: " في المائدة ثماني عشرة فريضة وليس فيها منسوخ ". وقال الحسن: " لم ينسخ من المائدة شئ ". فهؤلاء ذهبوا إلى أنه ليس في الآية شئ منسوخ. والذي يقتضيه ظاهر الآية جواز شهادة أهل الذمة على وصية المسلم في السفر، سواء كان في الوصية بيع أو إقرار بدين أو وصية بشئ أو هبة أو صدقة، هذا كله يشتمل عليه اسم الوصية إذا عقده في مرضه، وعلى أن الله تعالى أجاز شهادتهما عليه حين الوصية لم يخصص بها الوصية دون غيرها، وحين الوصية قد يكون إقرار بدين أو بمال عين وغيره لم تفرق الآية بين شئ منه. ثم قد روى أن آية الدين من آخر ما نزل من القرآن وإن كان قوم قد ذكروا أن المائدة من آخر ما نزل، وليس يمتنع أن يريدوا بقولهم: " من آخر ما نزل ": من آخر سورة نزلت في الجملة، لا على أن كل آية منها من آخر ما نزل. وإن كان كذلك فآية الدين لا محالة ناسخة لجواز شهادة أهل الذمة على الوصية في السفر، لقوله: (إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى) [البقرة: 282] إلى قوله: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) [البقرة: 282] وهم المسلمون لا محالة، لأن الخطاب توجه إليهم باسم الإيمان، ولم يخصص بها حال الوصية دون غيرها، فهي عامة في الجميع، ثم قال:
(ممن ترضون من الشهادة) [البقرة: 282] وليس الكفار بمرضيين في الشهادة على المسلمين، فتضمنت آية الدين نسخ شهادة أهل الذمة على المسلمين في السفر وفي الحضر وفي الوصية وغيرها، فانتظمت الآية جواز شهادة أهل الذمة على وصية المسلم، ومن حيث دلت على جوازها على وصية المسلم في السفر فهي دالة أيضا على وصية الذمي، ثم نسخ فيها جوازها على وصية المسلم بآية الدين وبقي حكمها على الذمي في السفر وغيره، إذ كانت حالة السفر والحضر سواء في حكم الشهادات وعلى جواز شهادة الوصيين على وصية الميت، لأن في التفسير أن الميت أوصى إليهما وأنهما شهدا على وصيته، ودلت على أن القول قول الوصي فيما في يده للميت مع يمينه لأنهما على ذلك
(٦١٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 610 611 612 613 614 615 616 617 618 619 620 » »»