الأشربة غير مسمى بهذا الاسم، لقوله: (والسكر من كل شراب). وقد دل أيضا على أن المحرم من سائر الأشربة هو ما يحدث عنده السكر، لولا ذلك لما اقتصر منها على السكر دون غيره، ولما فصل بينها وبين الخمر في جهة التحريم، ودل أيضا على أن تحريم الخمر حكم مقصور عليها غير متعد إلى غيرها قياسا ولا استدلالا، إذ علق حكم التحريم بعين الخمر دون معنى فيها سواها، وذلك ينفي جواز القياس عليها، لأن كل أصل ساغ القياس عليه فليس الحكم المنصوص عليه مقصورا عليه ولا متعلقا به بعينه، بل يكون الحكم منصوبا على بعض أوصافه مما هو موجود في فروعه فيكون الحكم تابعا للوصف جاريا معه في معلولاته.
ومما يدل على أن سائر الأشربة المسكرة لا يتناولها اسم الخمر قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة عنه: (الخمر من هاتين الشجرتين: النخلة والعنبة)، فقوله: (الخمر) اسم للجنس لدخول الألف واللام عليه، فاستوعب به جميع ما يسمى بهذا الاسم، فلم يبق شئ من الأشربة يسمى به إلا وقد استغرقه ذلك، فانتفى بذلك أن يكون ما يخرج من غير هاتين الشجرتين يسمى حمرا. ثم نظرنا فيما يخرج منهما هل جميع الخارج منهما مسمى باسم الخمر أم لا؟ فلما اتفق الجميع على أن كال ما يخرج منهما من الأشربة غير مسمى باسم الخمر، لأن العصير والدبس والخل ونحوه من هاتين الشجرتين ولا يسمى شئ منه خمرا، علمنا أن مراده بعض الخارج من هاتين الشجرتين، وذلك البعض غير مذكور في الخبر، فاحتجنا إلى الاستدلال على مراده من غيره في إثبات اسم الخمر للخارج منهما، فسقط الاحتجاج به في تحريم جميع الخارج منهما وتسميته باسم الخمر. ويحتمل مع ذلك أن يكون مراده أن الخمر أحدهما، كقوله تعالى: (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) [الرحمن: 22]، و (يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم) [الأنعام: 130] والمراد أحدهما، فكذلك جائز أن يكون المراد في قوله (الخمر من هاتين الشجرتين) أحدهما، فإن كان المراد هما جميعا، فإن ظاهر اللفظ يدل على أن المسمى بهذا الاسم هو أول شراب يصنع منهما، لأنه لما كان معلوما أنه لم يرد بقوله (من هاتين الشجرتين) بعض كل واحدة منهما، لاستحالة كون بعضها خمرا، دل على أن المراد أول خارج منهما من الأشربة لأن (من) يعتورها معان في اللغة، منها التبعيض، ومنها الابتداء كقولك (خرجت من الكوفة) (وهذا كتاب من فلان) وما جرى مجرى ذلك، فيكون معنى (من) في هذا الموضع على ابتداء ما يخرج منهما، وذلك إنما يتناول العصير المشتد والدبس السائل من النخل إذا اشتد، ولذلك قال أصحابنا فيمن حلف لا يأكل من هذه النخلة شيئا (إنه على رطبها وتمرها ودبسها) لأنهم حملوا (من) على ما ذكرنا من الابتداء.