الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٣ - الصفحة ٨٦
قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا. فقد كذبوكم بما تقولون فما يستطيعون
____________________
مضلين، ويقولون بل أنت تفضلت من غير سابقة على هؤلاء وآبائهم تفضل جواد كريم، فجعلوا النعمة التي حقها أن تكون سبب الشكر سبب الكفر ونسيان الذكر، وكان ذلك سبب هلاكهم، فإذا برأت الملائكة والرسل أنفسهم من نسبة الاضلال الذي هو عمل الشياطين إليهم واستعاذوا منه فهم لربهم الغنى العدل أشد تبرئة وتنزيها منه، ولقد نزهوه حين أضافوا إلى التفضل بالنعمة والتمتيع بها، وأسندوا نسيان الذكر والتسبب به للبوار إلى الكفرة فشرحوا الاضلال المجازى الذي أسنده الله إلى ذاته في قوله - يضل من يشاء - ولو كان هو المضل على الحقيقة لكان الجواب العتيد أن يقولوا: بل أنت أضللتهم، والمعنى أنتم أوقعتموهم في الضلال عن طريق الحق أم هم ضلوا عنه بأنفسهم وضل مطاوع أضله، وكان القياس ضل عن السبيل إلا أنهم تركوا الجار كما تركوه في هداه الطريق والأصل إلى الطريق وللطريق، وقولهم أضل البعير في معنى جعله ضالا: أي ضائعا لما كان أكثر ذلك بتفريط من صاحبه وقلة احتياط في حفظه، قيل أضله سواء كان منه فعل أو لم يكن (سبحانك) تعجب منهم قد تعجبوا مما قيل لهم لانهم ملائكة أنبياء معصومون فما أبعدهم عن الاضلال الذي هم مختص بإبليس وحزبه، أو نطقوا بسبحانك ليدلوا على أنهم المسبحون المتقدسون الموسومون بذلك، فكيف يليق بحالهم أن يضلوا عباده، أو قصدوا به تنزيهه عن الأنداد وأن يكون له نبي أو ملك أو غيرهما ندا، ثم قالوا: ما كان يصح لنا ولا يستقيم ونحن معصومون أن نتولى أحدا دونك، فكيف يصح لنا أن نحمل غيرنا على أن يتولونا دونك؟ أو ما كان ينبغي لنا أن نكون أمثال الشياطين في توليهم الكفار كما تولاهم الكفار، قال الله تعالى - فقاتلوا أولياء الشيطان - يريد الكفرة وقال - والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت - وقرأ أبو جعفر المدني نتخذ على البناء للمفعول، وهذا الفعل أعني اتخذ يتعدى إلى مفعول واحد كقولك اتخذ وليا، وإلى مفعولين كقولك اتخذ فلانا وليا، قال الله تعالى - أم اتخذوا آلهة من الأرض - وقال - واتخذ الله إبراهيم خليلا - فالقراءة الأولى من المتعدى إلى واحد وهو من أولياء، والأصل أن نتخذ أولياء فزيدت من لتأكيد معنى النفي، والثانية من المتعدى إلى مفعولين، فالأول ما بنى له الفعل والثاني من أولياء، ومن للتبعيض: أي لا نتخذ بعض أولياء، وتنكير أولياء من حيث إنهم أولياء مخصوصون وهم الجن والأصنام. والذكر ذكر الله والايمان به أو القرآن والشرائع. والبور: الهلاك يوصف به الواحد والجمع ويجوز أن يكون جمع بائر كعائذ وعوذ. هذه المفاجأة بالاحتجاج والالزام حسنة رائعة، وخاصة إذا انضم إليها الالتفات وحذف القول، ونحوها قوله تعالى - يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير - وقول القائل:
قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا * ثم القفول فقد جئنا خراسانا وقرئ يقولون بالتاء والياء، فمعنى ومن قرأ بالتاء فقد كذبوكم بقولكم إنهم آلهة، ومعنى من قرأ بالياء فقد كذبوكم بقولهم سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء. فإن قلت: هل يختلف حكم الباء مع التاء والياء؟ قلت: أي والله هي مع التاء كقوله بل كذبوا بالحق والجار والمجرور بدل من الضمير كأنه قيل فقد كذبوا بما تقولون، وهى مع الياء كقولك كتبت بالقلم. وقرئ يستطيعون بالتاء والياء أيضا: يعنى فما تستطيعون
(٨٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 80 81 82 83 84 86 87 88 89 90 91 ... » »»