الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٣ - الصفحة ٢١٦
أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون * ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون * الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون * ولم يكن لهم من شركائهم شفعاؤا وكانوا بشركائهم كافرين * ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون * فأما الذين آمنوا
____________________
ذلك أن سائر الخلائق كذلك أمرها جار على الحكمة والتدبير وأنه لابد لها من انتهاء إلى ذلك الوقت. والمراد بلقاء ربهم الاجل المسمى (أو لم يسيروا) تقرير لسيرهم في البلاد ونظرهم إلى آثار المدمرين من عاد وثمود وغيرهم من الأمم العاتية. ثم أخذ يصف لهم أحوالهم وأنهم (كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض) وحرثوها قال الله تعالى - لا ذلول تثير الأرض - وقيل لبقر الحرث المثيرة وقالوا سمى ثورا لاثارته الأرض وبقرة لأنها تبقرها أي تشقها (وعمروها) يعني أولئك المدمرون (أكثر مما عمروها) من عمارة أهل مكة، وأهل مكة أهل واد غير ذي زرع ما لهم إثارة الأرض أصلا ولا عمارة لها رأسا، فما هو إلا تهكم بهم وبضعف حالهم في دنياهم لان معظم ما يستظهر به أهل الدنيا ويتباهون به أمر الدهقنة وهم أيضا ضعاف القوى، فقوله - كانوا أشد منهم قوة - أي عاد وثمود وأضرابهم من هذا القبيل كقوله - أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة - وإن كان هذا أبلغ لأنه خالق القوى والقدر. فما كان تدميره إياهم ظلما لهم لان حاله منافية للظلم ولكنهم ظلموا أنفسهم حيث عملوا ما أوجب تدميرهم. قرئ عاقبة بالنصب والرفع، و (السوأى) تأنيث الأسوأ وهو الأقبح، كما أن الحسنى تأنيث الأحسن.
والمعنى: أنهم عوقبوا في الدنيا بالدمار ثم كانت عاقبتهم السوأى، إلا أنه وضع المظهر موضع المضمر: أي العقوبة التي أسوأ العقوبات في الآخرة وهي جهنم التي أعدت للكافرين، و (أن كذبوا) بمعنى لان كذبوا، ويجوز أن يكون أن بمعنى أي، لأنه إذا كان تفسير الإساءة التكذيب والاستهزاء كانت في معنى القول نحو نادى وكتب وما أشبه ذلك. ووجه آخر وهو أن يكون أساءوا السوأى بمعنى اقترفوا الخطيئة التي هي أسوأ الخطايا، وأن كذبوا عطف بيان لها وخبر كان محذوف كما يحذف جواب لما ولو إرادة الابهام (ثم إليه ترجعون) أي إلى ثوابه وعقابه. وقرئ بالتاء والياء. الابلاس: أي يبقى بائسا ساكنا متحيرا، يقال، ناظرته فأبلس إذا لم ينبس ويئس من أن يحتج، ومنه الناقة المبلاس التي لا ترغو. وقرئ يبلس بفتح اللام من أبلسه إذا أسكته (من شركائهم) من الذين عبدوهم من دون الله (وكانوا بشركائهم كافرين) أي يكفرون بإلهيتهم ويجحدونها أو وكانوا في الدنيا كافرين بسببهم. وكتب شفعواء في المصحف بواو قبل آلاف كما كتب علماء بني إسرائيل، وكذلك كتبت السوأى بألف قبل الياء إثباتا للهمزة على صورة الحرف الذي منه حركتها. الضمير في (يتفرقون) للمسلمين والكافرين لدلالة ما بعده عليه. وعن الحسن رضي الله عنه: هو تفرق المسلمين والكافرين هؤلاء في عليين وهؤلاء
(٢١٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 211 212 213 214 215 216 217 218 219 220 221 ... » »»