الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٣ - الصفحة ٢١٠
* يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون * والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين * الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون وكأين من دابة
____________________
الله عليه وسلم أن لا يعذب قومه ولا يستأصلهم وأن يؤخر عذابهم إلى يوم القيامة " وقيل يوم بدر، وقيل وقت فنائهم بآجالهم (المحيطة) أي ستحيط بهم (يوم يغشاهم العذاب) أو هي محيطة بهم في الدنيا لان المعاصي التي توجبها محيطة بهم أو لأنها مآلهم ومرجعهم لا محالة فكأنها الساعة محيطة بهم، ويوم يغشاهم على هذا منصوب بمضمر: أي يوم يغشاهم العذاب كان كيت وكيت، و (من فوقهم ومن تحت أرجلهم) كقوله تعالى - لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل - (ونقول) قرئ بالنون والياء (ما كنتم تعملون) أي جزاءه. معنى الآية أن المؤمن إذا لم يتسهل له العبادة في بلد هو فيه ولم يتمش له أمر دينه كما يحب فليهاجر عنه إلى بلد يقدر أنه فيه أسلم قلبا وأصح دينا وأكثر عبادة وأحسن خشوعا، ولعمري إن البقاع تتفاوت في ذلك التفاوت الكثير، ولقد جربنا وجرب أولونا فلم نجد فيما درنا وداروا أعون على قهر النفس وعصيان الشهوة وأجمع للقلب المتلفت وأضم للهم المنتشر وأحث على القناعة وأطرد للشيطان وأبعد من كثير الفتن وأضبط للامر الديني في الجملة من سكنى حرم الله وجوار بيت الله، فلله الحمد على ما سهل من ذلك وقرب ورزق من الصبر وأوزع من الشكر. وعن النبي صلى الله عليه وسلم " من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض استوجب الجنة، وكان رفيق إبراهيم ومحمد " وقيل هي في المستضعفين بمكة الذي نزل فيهم - ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها - وإنما كان ذلك لان أمر دينهم ما كان يستتب لهم بين ظهراني الكفرة (فإياي فاعبدون) في المتكلم نحو إياه ضربته في الغائب وإياك عضتك في المخاطب والتقدير: فإياي فاعبدوا فاعبدون. فإن قلت: ما معنى الفاء في فاعبدون وتقديم المفعول؟ قلت: الفاء جواب شرط محذوف، لان المعنى: إن أرضي واسعة فإن لم تخلصوا العبادة في أرض فأخلصوها لي في غيرها، ثم حذف الشرط وعوض من حذفه تقديم المفعول مع إفادة تقديمه معنى الاختصاص والاخلاص. لما أمر عباده بالحرص على العبادة وصدق الاهتمام بها حتى يتطلبوا لها أوفق البلاد وإن شسعت أتبعه قوله (كل نفس ذائقة الموت) أي واجدة مرارته وكربه كما يجد الذائق طعم المذوق، ومعناه: أنكم ميتون فواصلون إلى الجزاء، ومن كانت هذه عاقبته لم يكن له بد من التزود لها والاستعداد بجهده (لنبوئنهم) لنزلنهم (من الجنة) علالي. وقرئ لنثوينهم من الثواء وهو النزول للإقامة، يقال ثوى في المنزل وأئوى هو وأثوى غيره وثوى غير متعد، فإذا تعدى بزيادة همزة النقل لم يتجاوز مفعولا واحدا نحو ذهب وأذهبته. والوجه في تعديته إلى ضمير المؤمنين وإلى الغرف، إما إجراؤه مجرى لنزلنهم ونبوأنهم أو حذف الجار وإيصال الفعل، أو تشبيه الظرف المؤقت بالمهم. وقرأ يحيى بن وثاب فنعم بزيادة الفاء (الذين صبروا) على مفارقة الأوطان والهجرة لأجل الدين وعلى أذى المشركين وعلى المحن والمصائب،
(٢١٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 205 206 207 208 209 210 211 212 213 214 215 ... » »»