الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٢ - الصفحة ١٢٧
(بئيس بما كانوا يفسقون. فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين.
وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم. وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون. فخلف من بعدهم خلف
____________________
نحوا من اثني عشر ألفا، وثلث قالوا: لم تعظون قوما، وثلث هم أصحاب الخطيئة، فلما لم ينهوا قال المسلمون:
إنا لا نساكنكم، فقسموا القرية بجدار للمسلمين باب وللمعتدين باب، ولعنهم داود عليه السلام، فأصبح الناهون ذات يوم في مجالسهم ولم يخرج من المعتدين أحد، فقالوا: إن للناس شأنا، فعلوا الجدار فنظروا فإذا هم قردة، ففتحوا الباب ودخلوا عليهم فعرفت القرود أنسباءهم من الانس والانس لا يعرفون أنسباءهم من القرود، فجعل القرد يأتي نسيبه فيشم ثيابه ويبكي، فيقول ألم ننهك؟ فيقول برأسه بلى. وقيل صار الشباب قردة والشيوخ خنازير.
وعن الحسن أكلوا والله أوخم أكلة أكلها أهلها أثقلها خزيا في الدنيا وأطولها عذابا في الآخرة، هاه وأيم الله ما حوت أخذه قوم فأكلوه أعظم عند الله من قتل رجل مسلم، ولكن الله جعل موعدا والساعة أدهى وأمر (بئيس) شديد يقال بؤس يبؤس بأسا إذا اشتد فهو بئيس. وقرئ بئس بوزن حذر، وبئس على تخفيف العين ونقل حركتها إلى الفاء كما يقال كبد في كبد، وبيس على قلب الهمزة ياء كذيب في ذئب، وبيئس على فيعل بكسر الهمزة وفتحها، وبيس بوزن ربس على قلب همزة بيئس ياء وإدغام الياء فيها، وبيس على تخفيف بيس كهين في هين، وبائس على فاعل (فلما عتوا عن ما نهوا عنه) فلما تكبروا عن ترك ما نهوا عنه كقوله - وعتوا عن أمر ربهم - (قلنا لهم كونوا قردة) عبارة عن مسخهم قردة كقوله - إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون - والمعنى أن الله تعالى عذبهم أولا بعذاب شديد فعتوا بعد ذلك فمسخهم، وقيل فلما عتوا تكرير لقوله - فلما نسوا - والعذاب البئيس هو المسخ (تأذن ربك) عزم ربك وهو تفعل من الإيذان وهو الإعلام، لأن العازم على الأمر يحدث نفسه به ويؤذنها بفعله، وأجرى مجرى فعل القسم كعلم الله وشهد الله، ولذلك أجيب بما يجاب به القسم وهو قوله (ليبعثن) والمعنى: وإذ حتم ربك وكتب على نفسه ليبعثن على اليهود (إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب) فكانوا يؤدون الجزية إلى المجوس إلى أن بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم فضربها عليهم فلا تزال مضروبة عليهم إلى آخر الدهر، ومعنى ليبعثن عليهم: ليسلطن عليهم كقوله - بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد - (وقطعناهم في الأرض أمما) وفرقناهم فيها فلا يكاد يخلو بلد من فرقة منهم (منهم الصالحون) الذين آمنوا منهم بالمدينة أو الذين وراء الصين (منهم دون ذلك) ومنهم ناس دون ذلك الوصف منحطون عنه وهم الكفرة والفسقة. فإن قلت: ما محل دون ذلك قلت: الرفع وهو صفة لموصوف محذوف معناه: ومنهم ناس منحطون عن الصلاح، ونحوه - وما منا إلا له مقام معلوم - بمعنى وما منا أحد إلا له مقام (وبلوناهم بالحسنات والسيئات) بالنعم والنقم (لعلهم يرجعون) فينيبون (فخلف) من بعد المذكورين (خلف) وهم الذين كانوا في زمن رسول
(١٢٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 122 123 124 125 126 127 128 129 130 131 132 ... » »»