عمدة القاري - العيني - ج ١٤ - الصفحة ٦٣
ما يكون بخفة اليد كالشعوذة، والشعوذي البريد لخفة سيره، وقال ابن فارس: وليست هذه الكلمة من كلام أهل البادية. قال القرطبي: ومنه ما يكون كلاما يحفظ، ورقى من أسماء الله تعالى، وقد يكون من عهود الشياطين، ويكون أدوية وأدخنة وغير ذلك. وقال الرازي في (تفسيره) عن المعتزلة: إنهم أنكروا وجود السحر. قال: وربما كفروا من اعتقد وجوده. قال: وأما أهل السنة فقد جوزوا أن يقدر الساحر أن يطير في الهواء، وأن يقلب الإنسان حمارا والحمار إنسانا، إلا أنهم قالوا: إن الله يخلق الأشياء عندما يقول الساحر تلك الرقى والكلمات المعينة، فأما أن يكون المؤثر في ذلك هو الفلك والنجوم، فلا خلافا للفلاسفة والمنجمين والصابئة. ثم استدل على وقوع السحر، وأنه بخلق الله بقوله تعالى: * (وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله) * (البقرة: 201). ومن الأخبار أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم سحر، وأن السحر عمل فيه.
النوع الثاني: هل يجوز تعلم السحر أم لا؟ فقال الرازي: إن العلم بالسحر ليس بقبيح ولا محظور، اتفق المحققون على ذلك، فإن العلم لذاته شريف، ولأنه لو لم يعلم ما أمكن الفرق بينه وبين المعجزة، والعلم بكون المعجز معجزا واجب، وما يتوقف عليه الواجب فهو واجب، فهذا يقتضي أن يكون تحصيل العلم بالسحر واجبا، كيف: يكون حراما وقبيحا، هذا لفظه بحروفه في هذه المسألة، وفيه نظر من وجوه. الأول: قوله: العلم بالسحر ليس بقبيح، إن عنى به ليس بقبيح عقلا فمخالفوه من المعتزلة يمنعون ذلك، وإن عنى ليس بقبيح شرعا ففي قوله تعالى: * (واتبعوا ما تتلوا الشياطين...) * (البقرة: 201). الآية تبشيع لتعلم السحر. وفي (الصحيح): (من أتى عرافا أو كاهنا فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم). وفي السنن: (من عقد عقدة ونفث فيها فقد سحر). الثاني: قوله: ولا محظورا، اتفق المحققون على ذلك، وكيف لا يكون محظورا مع ما ذكرنا من الآية والحديث، والمحققون هم علماء الشريعة، وأين نصوصهم على ذلك؟ الثالث: قوله: ولأنه لو لم يعلم... إلى آخره، كلام فاسد، لأن أعظم معجزات رسولنا صلى الله عليه وسلم: القران العظيم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه: * (تنزيل من حكيم حميد) * (فصلت: 24). الرابع: قوله: والعلم بكونه معجزا، وهذا العلم لا يتوقف على علم السحر أصلا، ثم من المعلوم بالضرورة أن الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين وعامتهم كانوا يعلمون المعجز ويفرقون بينه وبين غيره، ولم يكونوا يعلمون السحر ولا تعلموه ولا علموه، والذي نص عليه العلماء والفقهاء أن تعلم السحر وتعليمه من الكبائر. وفي (التلويح): وقال بعض أصحاب الشافعي: تعلمه ليس بحرام، بل يجوز ليعرف ويرد على فاعله ويميز عن الكرامة للأولياء. قلت: الظاهر أن مراده من بعض أصحاب الشافعي الرازي، وقد ردينا عليه، ومنهم الغزالي.
النوع الثالث: اختلفوا فيمن يتعلم السحر ويستعمله. فقال أبو حنيفة ومالك وأحمد: يكفر بذلك، وعن بعض الحنفية: إن تعلمه ليتقيه أو ليجتنبه فلا يكفر، ومن تعلمه معتقدا جوازه أو أن ينفعه، كفر وكذا من اعتقد أن الشياطين تفعل له ما يشاء فهو كافر. وقال الشافعي: إذا تعلم السحر، قلنا له: صف لنا سحرك، فإن وصف ما يوجب الكفر مثل ما اعتقده أهل بابل من التقرب إلى الكواكب السبعة، وأنها تفعل ما يلتمس منها، فهو كافر، وإن كان لا يوجب الكفر فإن اعتقد إباحته فهو كافر.
النوع الرابع: في قتل الساحر. قال ابن هبيرة: هل يقتل بمجرد فعله واستعماله؟ فقال مالك وأحمد: نعم. وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يقتل حتى يتكرر منه الفعل أو يقر بذلك في شخص معين، فإذا قتل فإنه يقتل حدا عندهم إلا الشافعي، فإنه قال: والحالة هذه قصاصا، وأما ساحر أهل الكتاب فإنه يقتل عند أبي حنيفة، كما يقتل الساحر المسلم. وقال الشافعي ومالك وأحمد: لا يقتل لقصة لبيد بن أعصم. واختلفوا في المسلمة الساحرة، فعند أبي حنيفة: أنها لا تقتل، ولكن تحبس. وقالت الثلاثة: حكمها حكم الرجل. وقال أبو بكر الخلال: أخبرنا أبو بكر المروزي، قال: قرىء على أبي عبد الله يعني: أحمد بن حنبل حدثنا عمر بن هارون حدثنا يونس عن الزهري، قال: يقتل ساحر المسلمين. ولا يقتل ساحر المشركين، لأن رسول الله، صلى الله عليه وسلم سحرته امرأة من اليهود فلم يقتلها. وحكى ابن خويز منداد عن مالك روايتين في الذمي إذا سحر: أحدهما: يستتاب، فإن أسلم وإلا قتل، والثانية: أنه يقتل، وإن أسلم.
النوع الخامس: هل تقبل توبة الساحر؟ فقال مالك وأبو حنيفة وأحمد في المشهور عنهما: لا تقبل. وقال الشافعي وأحمد
(٦٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 ... » »»