عمدة القاري - العيني - ج ١٢ - الصفحة ٣٩
عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المصورون يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم)، ورواه مسلم أيضا وغيره، وعن أبي هريرة أخرجه النسائي قال: أخبرنا عمرو بن علي حدثنا عفان حدثنا همام عن قتادة عن عكرمة عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صور صورة كلف يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ). وأخرجه الطحاوي أيضا.
ذكر معناه: قوله: (إذ أتاه رجل)، كلمة: إذ، للمفاجأة، وقد ذكرنا غير مرة أن: إذ وإذا، يضافان إلى جملة، فقوله: (أتاه رجل) جملة فعلية، وقوله: (فقال ابن عباس)، جواب: إذ. قوله: (إنما معيشتي من صنعة يدي) يعني: ما معيشتي إلا من عمل يدي. قوله: (حتى ينفخ فيها)، أي: إلى أن ينفخ في الصورة. قوله: (وليس بنافخ) أي: لا يمكن له النفخ قط، فيعذب أبدا. قوله: (فربا) أي: فربا الرجل أي أصابه الربو، وهو مرض يحصل للرجل يعلو نفسه ويضيق صدره، وقال ابن قرقول: أي ذكر وامتلأ خوفا. وعن صاحب (العين): ربا الرجل أصابه نفس في جوفه، وهو الربو والربوة والربوة، وهو نهج ونفس متواتر، وقال ابن التين: معناه انتفخ كأنه خجل من ذلك. قوله: (ويحك)، كلمة ترحم، كما أن: ويلك، كلمة عذاب. قوله: (كل شيء)، بالجر بدل الكل عن البعض، وهذا جائز عند بعض النحاة، وهو قسم خامس من الإبدال كقول الشاعر:
* رحم الله أعظما دفنوهابسجستان طلحة الطلحات * ويروى: نضر الله أعظما، ويجوز أن يكون فيه مضاف محذوف، والتقدير: عليك، بمثل الشجر، أو يكون واو العطف فيه مقدرة، تقديره: وكل شيء، كما في: التحيات المباركات الصلوات الطيبات، فإن معناه: والصلوات، وبواو العطف جاء في رواية أبي نعيم من طريق خودة عن عوف: فعليك بهذا الشجر وكل شيء ليس فيه روح، وفي رواية مسلم والإسماعيلي بلفظ: فاصنع الشجر ومالا نفس له. وقال الطيبي: هو بيان للشجر، لأنه لما منعه عن التصوير وأرشده إلى جنس الشجر، رأى أنه غير واف بالمقصود، فأوضحه به، ويجوز النصب على التفسير.
ذكر ما يستفاد منه فيه: أن تصوير ذي روح حرام، وأن مصوره توعد بعذاب شديد، وهو قوله: فإن الله معذبه حتى ينفخ فيها، وفي رواية لمسلم: كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفسا، فيعذبه في جهنم. وروى الطحاوي من حديث أبي جحيفة: لعن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، المصورين. وعن عمير عن أسامة بن زيد يرفعه: قاتل الله قوما يصورون ما لا يخلقون. وقال المهلب: إنما كره هذا من أجل أن الصورة التي فيها الروح كانت تعبد في الجاهلية، فكرهت كل صورة، وإن كانت لا فيء لها ولا جسم قطعا للذريعة. وقال القرطبي في حديث مسلم: أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون، وهذا يقتضي أن لا يكون في النار أحد يزيد عذابه على عذاب المصورين، وهذا يعارضه قوله تعالى: * (ادخلوا آل فرعون أشد العذاب) * (غافر: 64). وقوله، صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس عذابا يوم القيامة إمام ضلالة). وقوله: (أشد الناس عذابا عالم لم ينفعه الله بعلمه)، وأشباه ذلك، ووجه التوفيق: أن الناس الذين أضيف إليهم: أشد، لا يراد بهم كل نوع الناس، بل بعضهم المشاركون في ذلك المعنى المتوعد عليه بالعذاب، ففرعون أشد المدعين للإلهية عذابا، ومن يقتدي به في ضلالة كفر أشد ممن يقتدي به في ضلالة بدعة، ومن صور صورا ذات أرواح أشد عذابا ممن يصور ما ليس بذي روح، فيجوز أن يعني بالمصورين الذين يصورون الأصنام للعبادة، كما كانت الجاهلية تفعل، وكما يفعل النصارى، فإن عذابهم يكون أشد ممن يصورها لا للعبادة. انتهى. ولقائل أن يقول: أشد الناس عذابا بالنسبة إلى هذه الأمة لا إلى غيرها من الكفار، فإن صورها لتعبد أو لمضاهاة خلق الله تعالى فهو كافر قبيح الكفر، فلذلك زيد في عذابه. قلت: قول القرطبي: ومن صور صورا ذات أرواح أشد عذابا ممن يصور ما ليس بذي روح، فيه نظر لا يخفى، وفيه إباحة تصوير ما لا روح له كالشجر ونحوه، وهو قول جمهور الفقهاء وأهل الحديث، فإنهم استدلوا على ذلك بقول ابن عباس: فعليك بهذا الشجر... إلى آخره، فإن ابن عباس استنبط قوله من قوله، صلى الله عليه وسلم (فإن الله معذبه حتى ينفخ فيها). أي: الروح، فدل هذا على أن المصور إنما يستحق هذا العذاب لكونه قد باشر تصوير حيوان مختص بالله تعالى، وتصوير جماد ليس له في معنى ذلك، فلا بأس به.
وذهب جماعة
(٣٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 ... » »»