عمدة القاري - العيني - ج ١٢ - الصفحة ٢٤٦
أي: هذا باب في بيان النهي عن إضاعة المال. وكلمة: ما، مصدرية، وإضاعة المال صرفه في غير وجهه، وقيل: إنفاقه في غير طاعة الله تعالى، والإسراف والتبذير.
قوله: (وقول الله) بالجر عطف على ما قبله. قوله: (والله لا يحب الفساد)، كذا وقع في رواية الأكثرين، ووقع في رواية النسفي: إن الله لا يحب الفساد، والأول هو الذي وقع في التلاوة، والثاني سهو من الناسخ، والفساد خلاف الصلاح. قوله: (ولا يصلح عمل المفسدين) كذا وقع في رواية الأكثرين، ووقع في رواية ابن شبويه والنسفي: لا يحب، بدل: لا يصلح، وأصل التلاوة أن الله لا يصلح عمل المفسدين، وغير هذا سهو من الكاتب، وقيل: يحتمل أنه لم يقصد التلاوة. قلت: فيه بعد لا يخفى. قوله: * (أصلواتك) * (هود: 78). في سورة هود وأولها: * (قالوا يا شعيب أصلواتك تأمرك..) * (هود: 78). إلى قوله: * (إنك لأنت الحليم الرشيد) * (هود: 78). كان شعيب، عليه الصلاة والسلام، كثير الصلوات، وكان قومه إذا رأوه يصلي تغامزوا وتضاحكوا، فقصدوا بقولهم: أصلواتك تأمرك؟ السخرية والهزء، وإسناد الأمر إلى الصلاة على طريق المجاز. قوله: * (أن نترك) * (هود: 78). أي: بأن نترك، أي: بترك ما يعبد آباؤنا. قوله: * (أو أن نفعل) * (هود: 78). أي: أتأمرنا صلواتك بأن نفعل في أموالنا ما تشاء أنت، وهو ما كان يأمرهم من ترك التطفيف والبخس. وقال زيد بن أسلم: كان مما ينهاهم شعيب، عليه الصلاة والسلام، عنه وعذبوا لأجله، قطع الدنانير والدراهم، وكانوا يقرضون من أطراف الصحاح لتفضل لهم القراضة، وكانوا يتعاملون بالصحاح عددا وبالمكسور وزنا ويبخسون. قوله: * (إنك لأنت الحليم الرشيد) * (هود: 78). قول: منهم، على سبيل الاستهزاء، ونسبتهم إياه إلى غاية السفه، ووجه ذكر هذه الآية في هذه الترجمة في قوله: أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء، لأن تصرفهم في الدراهم والدنانير على الوجه الذي ذكرناه إضاعة للمال، وكان شعيب، عليه الصلاة والسلام، ينهاهم عن ذلك، فلما لم يتركوا هذه الفعلة عذبهم الله تعالى. قوله: (وقال) أي: وقال الله تعالى: * (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) * (النساء: 5). هذه الآية في النساء، وتمامها: * (التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم، وقولوا لهم قولا معروفا) * (النساء: 5). ووجه ذكر هذه الآية هنا أيضا هو أن إيتاء الأموال للسفهاء إضاعتها. وقال الضحاك عن ابن عباس: المراد بالسفهاء: النساء والصبيان، وقال سعيد بن جبير: هم اليتامى، وقال قتادة وعكرمة ومجاهد: هم النساء، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا هشام بن عمار حدثنا صدقة بن خالد حدثنا عثمان بن أبي العاتكة عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن النساء السفهاء إلا التي أطاعت قيمها). وقال ابن أبي حاتم: ذكر عن مسلم بن إبراهيم: حدثنا حرب بن شريح عن معاوية بن قرة عن أبي هريرة: * (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) * (النساء: 5). قال: الخدم وهم شياطين الأنس. قوله: (قياما)، أي: تقوم بها معايشكم من التجارات وغيرها. قوله: * (وارزقوهم فيها واكسوهم) * (النساء: 5). وعن ابن عباس: لا تعمد إلى مالك وما خولك الله وجعله لك معيشة فتعطيه امرأتك أو بنيك، ثم تنظر إلى ما في أيديهم، ولكن أمسك مالك وأصلحه وأنت الذي تنفق عليهم من كسوتهم ومؤونتهم ورزقهم. وقال ابن جرير: حدثنا ابن المثنى حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن فراس عن الشعبي عن أبي بردة عن أبي موسى، قال: ثلاثة يدعون الله فلا يستجيب لهم: رجل كانت له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها، ورجل أعطى ماله سفيها، وقد قال الله تعالى: * (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) * (النساء: 5). ورجل كان له دين على رجل فلم يشهد عليه، وقال مجاهد: * (وقولوا لهم قولا معروفا) * (النساء: 5). يعني: في البر والصلة. قوله: (والحجر في ذلك)، بالجر عطف على قوله: (إضاعة المال)، أي: الحجر في ذلك أي: في السفه، وقال ابن كثير في (تفسيره): ويؤخذ الحجر على السفهاء من هذه الآية أعني، قوله: * (ولا تؤتوا السفهاء) * (النساء: 5). وهم أقسام، فتارة يكون الحجر على الصغير، فإنه مسلوب العبارة، وتارة يكون الحجر للجنون، وتارة يكون لسوء التصرف لنقص العقل أو الدين، وتارة يكون الحجر للفلس، وهو ما إذا أحاطت الديون برجل وضاق ماله عن وفائها، فإذا سأل الغرماء الحاكم الحجر عليه حجر عليه. انتهى. والسفيه: هو الذي يضيع ماله ويفسده بسوء تدبيره، والحجر في اللغة: المنع، وفي الشرع: المنع من التصرف في المال، وقال أصحابنا: السفه هو العمل بخلاف موجب الشرع واتباع الهوى، ومن عادة السفيه التبذير والإسراف في النفقة والتصرف لا لغرض أو لغرض لا يعده العقلاء من أهل الديانة غرضا، مثل دفع المال إلى المغني واللعاب وشراء الحمام الطيارة بثمن غال والغبن في التجارات من غير محمدة، وأبو حنيفة لا يرى الحجر بسبب السفه، وبه قال زفر، وهو مذهب إبراهيم النخعي ومحمد بن سيرين، وقال أبو يوسف ومحمد ومالك
(٢٤٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 241 242 243 244 245 246 247 248 249 250 251 ... » »»