عمدة القاري - العيني - ج ٦ - الصفحة ٢٢١
المسجد حتى أن من هو في الصف الأول والثاني وإن طالت الصفوف ينحرفون بأبدانهم أو بوجوههم لسماع الخطبة؟ قلت: الظاهر أن المراد بذلك من يسمع الخطبة دون من بعد فلم يسمع فاستقبال القبلة أولى به من توجهه لجهة الخطيب، ثم إن الرافعي والنووي جزما باستحباب ذلك، وصرح القاضي أبو الطيب بوجوب ذلك، ثم بقي هنا استقبال الخطيب للناس فذكر الرافعي: أنه من سنن الخطبة، ولو خطب مستدبرا للناس جاز، وإن خالف السنة. وحكى في (البيان) وغيره وجه: أنه لا يجزيه، كما ذكرنا عن قريب عن الشاشي. فإن قلت: حول النبي صلى الله عليه وسلم ظهره إلى الناس في خطبة الاستسقاء؟ قلت: كان ذلك تفاؤلا بتغير الحال، كما قلب رداءه فيها تفاؤلا بذلك، فأما في الجمعة فلم ينقل ذلك مع كونه قد استسقى في خطبة الجمعة ولم يحول وجهه في الدعاء للقبلة، وكل منهما أصل بنفسه لا يقاس عليه غيره، واستنبط الماوردي وغيره من الحديث المذكور أن الخطيب لا يلتفت يمينا ولا شمالا حالة الخطبة. وفي (شرح المهذب): اتفق العلماء على كراهة ذلك، وهو معدود في البدع المنكرة، خلافا لأبي حنيفة، فإنه قال: يلتفت يمنة ويسرة كالأذان، نقله الشيخ أبو حامد. قلت: في هذا النقل عن أبي حنيفة نظر، ولا يصح ذلك عنه، ومن السنة عندنا أن يترك الخطيب السلام من وقت خروجه إلى دخوله في الصلاة، والكلام أيضا، وبه قال مالك. وقال الشافعي وأحمد: السنة إذا صعد المنبر أن يسلم على القوم إذا أقبلهم بوجهه، كذا روي عن ابن عمر، رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم. قلت: هذا الحديث أورده ابن عدي من حديث ابن عمر في ترجمة عيسى بن عبد الله الأنصاري وضعفه، وكذا ضعفه ابن حبان. فإن قلت: روى ابن أبي شيبة: حدثنا أبو أسامة عن مجالد: (عن الشعبي، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر يوم الجمعة استقبل الناس فقال: السلام عليكم..) قلت: هذا مرسل فلا يحتج به عندهم، وقال عبد الحق في (الأحكام الكبرى) : هو مرسل، وإن أسنده أحمد من حديث عبد الله بن لهيعة فهو معروف في الضعفاء، فلا يحتج به. وقال البيهقي: الحديث ليس بقوي.
29 ((باب من قال في الخطبة بعد الثناء أما بعد)) أي: هذا باب في بيان قول من قال في الخطبة بعد الثناء عن الله عز وجل كلمة: أما بعد، وكان البخاري، رحمه الله، لم يجد في صفة خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة حديثا على شرطه، فاقتصر على ذكر الثناء واللفظ وضع للفصل بينه وبين ما بعده من موعظة ونحوها، وقال أبو جعفر النحاس عن سيبويه: معنى أما بعد، مهما يكن من شيء، وقال أبو إسحاق: إذا كان رجل في حديث وأراد أن يأتي بغيره قال: أما بعد، وأجاز الفراء: أما بعدا، بالنصب والتنوين، و: أما بعد، بالرفع والتنوين، وأجاب هشام: أما بعد، بفتح الدال. واعلم أن: بعد وقبل، من الظروف التي قطعت عن الإضافة، فإذا أريد منهما المضاف إليه المتعين بعد القطع يبنى ولا يعرب، ويكون بناؤهما على الضم لأن بناءهما عارض يزول بالإضافة، فكانت الحركة ضمة لأنها لا توهم إعرابا، لأن الضم لا يدخلهما مضافين. وفي (المحكم): معناه أما بعد دعائي لك. وفي (الجامع): يعني بعد الكلام المتقدم، أو بعد ما بلغني من الخبر.
واختلف في أول من قالها. فقيل: داود، عليه الصلاة والسلام، رواه الطبراني مرفوعا من حديث أبي موسى الأشعري، وفي اسناده ضعف، وقيل: قس بن ساعدة. وقيل: يعرب بن قحطان. وقيل: كعب بن لؤي جد النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: سحبان بن وائل. وفي (غرائب مالك) للدارقطني بسند ضعيف: (لما جاء ملك الموت إلى يعقوب، عليه الصلاة والسلام، قال يعقوب في جملة كلامه: أما بعد، فإنا أهل بيت موكل بنا البلاء)، وذكر الحافظ أبو محمد عبد القادر بن عبد الله الرهاوي أن جماعة من الصحابة، رضي الله تعالى عنهم، رووا هذه اللفظة عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهم: سعد بن أبي وقاص وابن مسعود وأبو سعيد الخدري وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو وعبد الله والفضل ابنا العباس بن عبد المطلب وجابر بن عبد الله وأبو هريرة وسمرة بن جندب وعدي بن حاتم وأبو حميد الساعدي وعقبة بن عامر والطفيل بن سخبرة وجرير بن عبد الله البجلي وأبو سفيان بن حرب وزيد بن أرقم وأبو بكرة وأنس بن مالك وزيد بن خالد وقرة بن دعموص والمسور بن مخرمة وجابر بن سمرة وعمرو بن ثعلبة ورزين بن أنس السلمي والأسود بن سريع وأبو شريح بن عمرو وعمرو بن حزم وعبد الله ابن عليم وعقبة بن مالك وأسماء بنت أبي بكر، رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
(٢٢١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 216 217 218 219 220 221 222 223 224 225 226 ... » »»