عمدة القاري - العيني - ج ٦ - الصفحة ٢١٥
ذكر معناه: قد مضى الكلام فيه مستوفى في: باب الصلاة في المنبر والسطوح والخشب، ولكن نذكر ههنا ما لم نذكر هناك زيادة للبيان وإن وقع فيه بعض تكرار، فنقول: قوله: (إن رجالا) لم يسموا من هم. قوله: (وقد امتروا) جملة في محل النصب على الحال من: الامتراء. قال الكرماني: وهو الشك، وقال بعضهم: من المماراة: وهي المجادلة، والذي قاله الكرماني هو الأصوب. قوله: (والله إني لا أعرف مما هو) أي: من أي شيء هو، أي: عوده، وإنما أتى بالقسم مؤكدا بالجملة الإسمية وبكلمة: أن، التي للتحقيق، وبلام التأكيد في الخبر لإرادة التأكيد فيما قاله للسامع. قوله: (ولقد رأيته أول يوم وضع) أي: لقد رأيت المنبر في أول يوم وضع في موضعه، وهو زيادة على السؤال، وكذا قوله: (وأول يوم جلس عليه)، أي: أول يوم جلس النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر، وفائدة هذه الزيادة المؤكدة باللام وكلمة: قد للإعلام بقوة معرفته بما سألوه. قوله: (ارسل رسول الله صلى الله عليه وسلم) إلى آخره شرح جوابه لهم وبيانه فلذلك فصله عما قبله ولم يذكره بعطف قوله (إلى فلانة)، فلان للمذكر وفلانة للمؤنث، كناية عن اسم سمي به المحدث عنه خاص غاالب، ويقال في غير الناس الفلان والفلانة، والمانع من صرفه، وجود العلتين: العلمية والتأنيث. وقد ذكرنا في: باب الصلاة على المنبر، ما قالوا في اسمها، وكذلك ذكرنا الاختلاف في صانع المنبر على أقوال كثيرة مستقصاة، وفي حديث سهل المذكور وهناك: عمله فلان مولى فلانة، وههنا قوله: (مري غلامك) تقديره: أرسل إليها، وقال لها: مري غلامك، وهو أمر من: أمر يأمر، وأصله: أؤمري، على وزن افعلي، فاجتمعت همزتان فنقلتا فحذفت الثانية واستغنيت عن همزة الوصل فصار مري على وزن: علي، لأن المحذوف فاء الفعل. قوله: (غلامك النجار) بنصب النجار لأنه صفة للغلام، وقد سماه عباس بن سهل بأن اسمه ميمون، وقد ذكرنا هناك من رواه، ويقال اسمه: مينا، ذكره إسماعيل بن أبي أويس عن أبيه، قال: عمل المنبر غلام لامرأة من الأنصار من بني سلمة أو بني ساعدة أو امرأة لرجل منهم يقال له مينا. وأشبه الأقوال التي ذكرت في صانع المنبر بالصواب قول من قال: هو ميمون، لكون الإسناد فيه من طريق سهل بن سعد، وبقية الأقوال بأسانيد ضعيفة بل فيها شيء واه.
فإن قلت: كيف يكون طريق الجمع بين هذه الأقوال وهي سبعة على ما ذكرنا في: باب الصلاة على المنبر؟ قلت: لا طريق في هذا إلا أن يحمل على واحد بعينه ما هو في صنعته والبقية أعوانه. فإن قلت: لم لا يجوز أن يكون الكل قد اشتركوا في العمل؟ قلت: جاء في روايات كثيرة أنه لم يكن بالمدينة إلا نجار واحد. فإن قلت: متى كان عمل هذا المنبر؟ قلت: ذكر ابن سعد أنه كان في السنة السابعة، لكن يرده ذكر العباس وتميم فيه، وكان قدوم العباس بعد الفتح في آخر سنة ثمان، وقدوم تميم سنة تسع، وذكر ابن النجار بأنه كان في سنة ثمان، ويرده أيضا ما ورد في حديث الإفك في (الصحيحين): (عن عائشة، رضي الله تعالى عنها، قالت: فثار الحيان الأوس والخزرج حتى كادوا أن يقتتلوا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فحفضهم حتى سكتوا). وعن الطفيل بن أبي ابن كعب عن أبيه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إلى جذع إذ كان المسجد عريشا، وكان يخطب إلى ذلك الجذع. فقال رجل من أصحابه: يا رسول الله! هل لك أن نجعل لك منبرا تقوم عليه يوم الجمعة وتسمع الناس يوم الجمعة خطبتك؟ قال: نعم، فصنع له ثلاث درجات هي على المنبر، فلما صنع المنبر وضع موضعه الذي وضعه فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقوم فيخطب عليه، فمر إليه، فلما جاز الجذع الذي كان يخطب إليه خار حتى تصدع وانشق، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع صوت الجذع فمسحه بيده ثم رجع إلى المنبر). وعن عائشة، رضي الله تعالى عنها: (لما وضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على الجذع وسكنه غار الجذع فذهب). وقيل: لما سكن لم يزل على حاله، فلما هدم المسجد أخذ ذلك أبي بن كعب فكان عنده إلى أن بلي وأكلته الأرض، فعاد رفاتا، رواه الشافعي وأحمد وابن ماجة. وفي رواية: لما وضع يده على الجذع سكن حنينه، وجاء في رواية أخرى: (لو لم أفعل ذلك لحن إلى قيام الساعة). فإن قلت: حكى بعض أهل السير أنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب على منبر من طين قبل أن يتخذ المنبر الذي من خشب. قلت: يرده الحديث الذي ذكرناه، والأحاديث الصحيحة، أنه صلى الله عليه وسلم كان يستند إلى الجذع إذا خطب.
ثم إعلم أن المنبر لم يزل على حاله ثلاث درجات حتى زاده مروان في خلافة معاوية ست درجات من أسفله، وكان سبب ذلك ما حكاه الزبير بن بكار في (أخبار المدينة ) بإسناده إلى حميد بن عبد الرحمن بن عوف، قال: بعث معاوية إلى مروان وهو عامله على المدينة أن يحمل المنبر إليه فأمر به فقلع: فأظلمت المدينة، فخرج مروان فخطب فقال:
(٢١٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 210 211 212 213 214 215 216 217 218 219 220 ... » »»