عمدة القاري - العيني - ج ٦ - الصفحة ١٣٧
من الصحابة أحدا، وكانت غزوة الحديبية في ذي القعدة سنة ست من الهجرة بلا خلاف، وممن نص على ذلك الزهري ونافع مولى ابن عمر وقتادة وموسى بن عقبة ومحمد بن إسحاق. قوله: (على إثر سماء)، بكسر الهمزة وسكون الثاء المثلثة على المشهور، وروي، بأثر سماء، بفتح الهمزة وفتح الثاء أيضا، وهو: ما يكون عقيب الشيء، والمراد من السماء: المطر، وأطلق عليها: سماء، لكونها تنزل من جهة السماء، وكل جهة علو تسمى: سماء. قوله: (كانت من الليل)، كذا هو في رواية الأكثرين، وفي رواية المستملي والحموي: (من الليلة) بالإفراد، والسماء تذكر وتؤنث إذا لم يرد بها المطر. فإن قلت: ههنا قد أريد بها المطر، فكان ينبغي أن تذكر؟ قلت: ذاك على لفظها لا معناها. قوله: (فلما انصرف) أي: من صلاته. قوله: (هل تدرون؟) استفهام على سبيل التنبيه، ووقع عند النسائي في رواية سفيان عن صالح: (ألم تسمعوا ما قال ربكم الليلة؟) وهذا من الأحاديث القدسية. قوله: (أصبح من عبادي)، هذه الإضافة فيه تدل على العموم بدليل التقسيم إلى مؤمن وكافر، بخلاف مثل الإضافة في قوله: * (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) * (الحجر: 42، والإسراء: 65). فإن الإضافة فيه للتشريف. قوله: (مؤمن بي وكافر)، يحتمل أن يكون المراد من الكفر كفر الشرك بقرينة مقابلته بالإيمان، ويقوي هذا ما رواه أحمد من رواية نصر بن عاصم الليثي عن معاوية الليثي مرفوعا: (يكون الناس مجدبين فينزل الله عليهم رزقا من رزقه، فيصبحون مشركين يقولون: مطرنا بنوء كذا). وعن هذا قال القرطبي: معناه الكفر الحقيقي، لأنه قابله بالإيمان حقيقة، وذاك في حق من اعتقد أن المطر من فعل الكواكب، ويحتمل أن يكون المراد به كفر النعمة إذا اعتقد أن الله تعالى هو الذي خلق المطر واخترعه، ثم تكلم بهذا القول، فهو مخطىء لا كافر، وخطؤه من وجهين: الأول: مخالفته للشرع. والثاني: تشبهه بأهل الكفر في قولهم، وذلك لا يجوز، لأنا أمرنا بمخالفتهم. فقال: (خالفوا المشركين وخالفوا اليهود)، ونهينا عن التشبه بهم، وذلك يقتضي الأمر بمخالفتهم في الأفعال والأقوال، فلو قال: نظير هذا اللفظ الممنوع منه يريد الإخبار عما أجرى الله به سنته جاز، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أنشأت بحرية ثم تشاءمت فتلك عين غديقة). قوله: (بنوء كذا وكذا)، النوء، بفتح النون وسكون الواو وفي آخره همزة، قال الخطابي: النوء: الكوكب، ولذلك سموا نجوم منازل القمر: الأنواء، وإنما سمي النجم نوأ لأنه ينوء طالعا عند مغيب مقابله ناحية المغرب. وقال ابن الصلاح: النوء في أصله ليس نفس الكوكب، فإنه مصدر: ناء النجم إذا سقط وغاب، وقيل: أي نهض وطلع. وقال أبو عبيد: الأنواء ثمانية وعشرون نجما معروفة المطالع في أزمنة السنة كلها، يسقط منها في كل ثلاث عشرة ليلة نجم في المغرب مع طلوع الفجر، ويطلع آخر مقابله في المشرق من ساعته، وإنما سمي نوأ لأنه إذا سقط الساقط ناء الطالع، وذلك النهوض هو النوء، وانقضاء هذه الثمانية والعشرين مع انقضاء السنة، وكانت العرب في الجاهلية إذا سقط منها نجم وطلع آخر يقولون: لا بد أن يكون عند ذلك مطر أو ريح فيقولون: مطرنا بنوء كذا، أي: المطر كان من أجل أن الكوكب ناء، وأنه هو الذي هاجه. وقال ابن الأعرابي: الساقطة منها في المغرب هي: الأنواء، والطالعة منها هي: البوارح، وقال صاحب (المطالع): وقد أجاز العلماء أن يقال: مطرنا في نوء كذا، ولا يقال بنوء كذا، ويحكى عن أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه، أنه كان يقول: مطرنا بنوء الله تعالى، وفي رواية: مطرنا بنوء الفتح، ثم يتلو: * (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها) * (فاطر: 2). وفي (الأنواء الكبير) لأبي حنيفة: الذي عندي في الحديث أن المطر كان من أجل أن الكوكب ناء، وأنه هو الذي هاجه. وأما من زعم أن الغيث يحصل عند سقوط الثريا فهذا، وما أشبهه، إنما هو إعلام للأوقات والفصول، وليس من وقت ولا زمن إلا وهو معروف بنوع من مرافق العباد يكون فيه دون غيره، وقد قال عمر للعباس، رضي الله تعالى عنهما، وهو يستسقي بالناس: يا عم رسول الله صلى الله عليه وسلم! كم بقي علينا من نوء الثريا؟ فإن العلماء يزعمون أنها تعترض بالأفق سبعا. قال ابن عباس، رضي الله تعالى عنه: لأمر أخطأ الله نوأها، يريد أخطأها الغيث، فلو لم يدلك على افتراق المذهبين في ذكر الأنواء، إلا هذان الخبران لكفى بهما دليلا. قوله: (مطرنا بنوء كدا وكذا) قد عرف أن كذا يرد على ثلاثة أوجه: أحدها: أن تكون كلمتين باقيتين على أصلهما وهما: كاف، التشبيه. و: ذا، الإشارية، كقولك: رأيت زيدا فاضلا، ورأيت عمرا كذا، ويدخل عليها: هاء التنبيه كقوله تعالى: * (هكذا عرشك) * (النمل: 42). الثاني: أن تكون كلمة واحدة مركبة من كلمتين مكنيا بها عن غير عدد، كما جاء في الحديث: أنه يقال للعبد يوم القيامة: (أتذكر يوم كذا وكذا؟ فعلت كذا وكذا؟). والثالث: أن تكون كلمة واحدة مركبة مكنيا بها عن العدد، والذي ههنا من هذا القسم، وفي حديث أبي سعيد، رضي الله تعالى عنه، عند النسائي
(١٣٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 132 133 134 135 136 137 138 139 140 141 142 ... » »»