عمدة القاري - العيني - ج ٤ - الصفحة ٩٤
نصر ينصر. وفي (الموعب): وقد لهى يلهو والتهى وألهاني عنه، كذا... أي أنساني وشغلني. قوله: (آنفا) أي: قريبا، واشتقاقه من الائتلاف بالشيء أي: الابتداء به، وكذلك الاستئناف، ومنه أنف كل شيء وهو أوله. ويقال: قلت آنفا وسالفا، وانتصابه على الظرفية، قال ابن الأثير: قلت: الشيء آنفا في أول وقت يقرب مني. قوله: (عن صلاتي) أي: عن كمال الحضور فيها وتدبير أركانها وأذكارها، والاستقصاء في التوجه إلى جناب الجبروت.
ذكر ما يستنبط منه من الأحكام فيه: جواز لبس الثوب المعلم وجواز الصلاة فيه. وفيه: أن اشتغال الفكر اليسير في الصلاة غير قادح فيها، وهو مجمع عليه، وقال ابن بطال: وفيه أن الصلاة تصح وإن حصل فيها فكر مما ليس متعلقا بالصلاة، والذي حكي عن بعض السلف أنه مما يضر غير معتد به. وفيه: طلب الخشوع في الصلاة والإقبال عليها ونفي كل ما يشغل القلب ويلهي عنه، ولهذا قال أصحابنا: المستحب أن يكون نظره إلى موضع سجوده، لأنه أقرب إلى التعظيم من إرسال الطرف يمينا وشمالا. وفيه: المبادرة إلى ترك كل ما يلهي ويشغل القلب عن الطاعة والإعراض عن زينة الدنيا والفتنة بها. وفيه: منع النظر وجمعه عما لا حاجة بالشخص إليه في الصلاة وغيرها، وقد كان السلف لا يخطئ أحدهما موضع قدميه، إذا مشى. وفيه: تكنية العالم لمن دونه، وكذلك الإمام. وفيه: كراهة تزويق المحراب في المسجد وحائطه ونقشه وغير ذلك من الشاغلات. وفيه: قبول الهدية من الأصحاب والإرسال إليهم، واستدل به الباجي على صحة المعاطاة في العقود بعدم ذكر الصيغة، وقال الطيبي: إنما أرسل إليه لأنه كان أهداها إياه، فلما ألهاه علمها أي: شغله إياه عن الصلاة بوقوع نظره على نقوش العلم، ردها، أو تفكر في أن مثل ذلك الرعونة التي لا تليق به، ردها إليه واستبدل منه أنبجانية كيلا يتأذى قلبه بردها إليه. وفيه: كراهية الأعلام التي يتعاطاه الناس على أردانهم. وفيه: أن لصور الأشياء الظاهرة تأثيرا في النفوس الطاهرة والقلوب الزكية.
الأسئلة والأجوبة: منها ما قيل: كيف بعث بشيء يكرهه لنفسه إلى غيره؟ وأجيب: بأن بعثها إلى أبي جهم لم يكن لما ذكر، وإنما كان لأنها كانت سبب غفلته وشغله عن الخشوع وعن ذكر ا، كما قال: أخرجوا عن هذا الوادي الذي أصابكم فيه الغفلة، فإنه واد به شيطان، ألا ترى إلى قوله لعائشة في الضب: (إنا لا نتصدق بما لا نأكل) وهو عليه الصلاة والسلام، أقوى خلق ا لرفع الوسوسة، ولكن كرهها لدفع الوسوسة. وقال ابن بطال: وأما بعثه بالخميصة إلى أبي جهم وطلب أنبجانيته فهو من باب الإدلال عليه لعلمه بأنه يفرح به.
ومنها ما قيل: ما وجه تعيين أبي جهم في الإرسال إليه؟ وأجيب بأن أبا جهم هو الذي أهداها له، فلذلك ردها عليه. وروى الطحاوي عن المزني عن الشافعي قال: حدثنا مالك عن علقمة بن أبي علقمة عن أمه عن عائشة رضي ا تعالى عنها، قالت: (أهدى أبو جهم إلى النبي خميصة شامية لها علم، فشهد فيها النبي الصلاة، فلما انصرف قال: ردي هذه الخميصة إلى أبي جهم فإنها كادت تفتنني).
ومنها ما قيل: أليس فيه تغيير خاطره بالرد عليه؟ وأجيب: بما ذكرناه الآن عن ابن بطال، والأولى من هذا ما دلت عليه رواية أبي موسى المدني: ردوها عليه وخذوا أنبجانيته، لئلا يؤثر رد الهدية في قلبه. وعند أبي داود. (شغلني أعلام هذه، وأخذ كرديا كان لأبي جهم، فقيل: يا رسول ا الخميصة كانت خيرا من الكردي).
ومنها ما قيل: أليس فيه إشارة إلى استعمال أبي جهم إياها في الصلاة؟ وأجيب: بأنه لا يلزم منه ذلك، ومثله قوله في حلة عطارد، حيث بعث بها إلى عمر: إني لم أبعث بها إليك لتلبسها، وإنما أباح له الانتفاع بها من جهة بيع أو إكساء لغيره من النساء. فإن قلت: ليست قضية أبي جهم مثل قضية عمر، رضي ا تعالى عنه، لأنه قال له: لم أبعث بها إليك لكذا وكذا، وهي إذا ألهت سيد الخلق مع عصمته فكيف لا تلهي أبا جهم، على أنه قيل: إنه كان أعمى فالإلهاء مفقود عنه. قلت: لعله علم أنه لا يصلي فيها، ويحتمل أن يكون خاصا بالشارع، كما قال: (كل فإنني أناجي من لا تناجي).
ومنها ما قيل: كيف يخاف الافتتان من لا يلتفت إلى الأكوان * (ما زاغ البصر وما طغى) * (النجم: 71) وأجيب: بأنه كان في تلك الليلة خارجا عن طباعه فأشبه ذلك نظره من ورائه، فأما إذا رد إلى طبعه البشري فإنه يؤثر فيه ما يؤثر في البشر.
ومنها ما قيل: إن المراقبة شغلت خلقا من أتباعه حتى إنه وقع السقف إلى جانب مسلم بن يسار ولم يعلم. وأجيب: بأن أولئك يؤخذون عن طباعهم فيغيبون عن وجودهم، وكان الشارع يسلك طريق الخواص وغيرهم، فإذا سلك طريق
(٩٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 ... » »»