عمدة القاري - العيني - ج ٤ - الصفحة ١٤٢
منه البناء على غالب الظن واليقين في أين ههنا؟ ومنها ما قاله الكرماني أيضا. فإن قلت: كيف رجع إلى الصلاة بانيا عليها وقد تكلم بقوله: وما ذاك؟ قلت: إنه كان قبل تحريم الكلام في الصلاة، أو أنه كان خطابا للنبي وجوابا، وذلك لا يبطل الصلاة، أو كان قليلا وهو في حكم الساهي أو الناسي، لأنه كان يظن أنه ليس فيها. قلت: مذهب إمامه أن الكلام في الصلاة إذا كان ناسيا أو ساهيا لا يبطلها، فلا فائدة حينئذ في قوله: إنه كان قبل تحريم الكلام في الصلاة. والجواب الثاني: لا يمشي بعد النبي. والجواب الثالث: غير موجه لأنه قوله: (وما ذاك؟) غير قليل على ما لا يخفى.
ومنها ما قاله الكرماني أيضا. فإن قيل: كيف رجع النبي إلى قول غيره، ولا يجوز للمصلي الرجوع في حال صلاته إلا إلى علمه ويقين نفسه؟ فجوابه: أن النبي سألهم ليتذكر، فلما ذكروه تذكر فعلم السهو فبنى عليه، لا أنه رجع إلى مجرد قول الغير، أو أن قول السائل أحدث شكا عند رسول الله فسجد بسبب حصول الشك له، فلا يكون رجوعا إلا إلى حال نفسه قلت: هذا كلام فيه تناقض، لأن قوله: سألهم إلى قوله: فبنى عليه، رجوع إلى الغير بلا نزاع، وقوله: لا أنه رجع إلى مجرد قول الغير، يناقض ذلك. وقوله: فسجد بسبب حصول الشك، غير مسلم، لأن سجوده إنما كان للزيادة لا للشك الحاصل من كلامهم، لأنه لو شك لكان ترددا، إذ مقتضى الشك التردد، فحين سمع قولهم: صليت كذا وكذا ثنى رجليه واستقبل القبلة وسجد سجدتين.
ومنها ما قاله الكرماني أيضا. فإن قلت: آخر الحديث يدل على سجود السهو بعدالسلام وأوله على عكسه. قلت: مذهب الشافعي أنه يسن قبل السلام، وتأول آخر الحديث بأنه قول، والأول فعل، والفعل مقدم على القول لأنه أدل على المقصود، أو أنه أمر بأن يسجد بعد السلام بيانا للجواز، وفعل نفسه قبل السلام لأنه أفضل. قلت: لا نسلم أن الفعل مقدم على القول، لأن مطلق القول يدل على الوجوب، على أنا نقول: يحتمل أن يكون سلم قبل أن يسجد سجدتين، ثم سلم سلام سجود السهو، فالراوي اختصره، ولأن في السجود بعد السلام تضاعف الأجر، وهو الأجر الحاصل من سلام الصلاة ومن سلام سجود السهو، ولأنه شرع جبرا للنقص أو للزيادة التي في غير محلها وهي أيضا نقص كالإصبع الزائدة، والجبر لا يكون إلا بعد تمام المجبور، وما بقي عليه سلام الصلاة، فهو في الصلاة.
ومنها ما قاله الكرماني أيضا. فإن قلت: لم عدل عن لفظ الأمر إلى الخبر وغير أسلوب الكلام؟ قلت: لعل السلام والسجود كانا ثابتين يومئذ، فلهذا أخبر عنهما، وجاء بلفظ الخبر بخلاف التحري والإتمام، فإنهما ثبتا بهذا الأمر، أو للإشعار بأنهما ليسا بواجبين كالتحري والإتمام. قلت: الفصاحة من التفنن في أساليب الكلام، والنبي أفصح الناس لا يجارى في فصاحته، وقوله: أو للإشعار بأنهما ليسا بواجبين، غير مسلم، بل هما واجبان لمقتضى الأمر المطلق، وهو قوله: (من شك في صلاته فليسجد سجدتين بعدما يسلم)، والصحيح من المذهب هو الوجوب، ذكره في (المحيط) و (المبسوط) و (الذخيرة) و (البدائع) وبه قال مالك وأحمد، وعند الكرخي من أصحابنا: أنه سنة، وهو قول الشافعي. وعلى رواية: (فليتحر الصواب فليتم عليه ثم ليسلم ثم ليسجد سجدتين)، لا يرد هذا السؤال فلا يحتاج إلى الجواب.
ومنها ما قاله الكرماني أيضا. فإن قلت: السجدة مسلم أنها ليست بواجبة، لكن السلام واجب. قلت: وجوبه بوصف كونه قبل السجدتين ممنوع، وأما نفس وجوبه فمعلوم من موضع آخر. قلت: قوله: مسلم، غير مسلم لما ذكرنا الآن، وقوله: ممنوع، غير ممنوع أيضا لأن محل السلام الذي هو للصلاة في آخرها متصلا بها فوجب بهذا الوصف، ولا يمتنع أن يكون الشيء واجبا من جهتين.
ومنها ما قيل: إن التحري في حديث الباب محمول على الأخذ بالأقل الذي هو اليقين، لأن التحري هو القصد، ومنه قوله تعالى: * (تحروا رشدا) * (الجن: 41) ومعنى قوله (فليتحر الصواب): فليتقصد الصواب فليعمل به، وقصد الصواب هو ما بينه في حديث أبي سعيد الخدري الذي رواه عنه مسلم، قال: قال رسول ا: (إذا شك أحدكم في صلاته فلا يدري كم صلى ثلاثا أم أربعا؟ فليطرح الشك وليبن على اليقين...) الحديث. وأجيب: بأنه محمول على ما إذا تحرى ولم يقع تحريه على شيء، فحينئذ نقول: إنه يبني على الأقل، ولا يخالف هذا لما قلنا.
ومنها ما قيل: المصير إلى التحري لضرورة، ولا ضرورة ههنا، لأنه يمكنه إدراك اليقين بدونه بأن يبني على الأقل. فلا حاجة إلى التحري؟ وأجيب: بأنه قد يتعذر عليه الوصول إلى ما اشتبه عليه بدليل من الدلائل، والتحري عند عدم الأدلة مشروع كما في أمر القبلة. فإن قيل: يستقبل. قلت: لا وجه لذلك لأنه عسى أن يقع له ثانيا. وثانيا إلى ما لا يتناهى،
(١٤٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 137 138 139 140 141 142 143 144 145 146 147 ... » »»