عمدة القاري - العيني - ج ٣ - الصفحة ٢٤٠
وابن طريف في باب: فعل وفعل، فقالا: نجس الشيء ونجسا نجاسة ضد طهر. وفي (الصحاح) نجس الشيء بالكسر ينجس نجسا فهو نجس ونجس وفي (كتاب ابن عديس) نجس الرجل ونجس نجاسة ونجوسة بكسر الجيم وضمهاإذا تقذر.
ذكر إعرابه قوله: (وهو جنب) جملة اسمية وقعت حالا من الضمير المنصوب الذي في لقيته. قوله: (فذهبت فاغتسلت) قال الكرماني: وفي بعضها أي: في بعض النسخ فذهب فاغتسل. قلت: على تقدير صحة الرواية بها يجوز فيه الأمران الغيبة بالنظر إلى نقل كلام أبي هريرة بالمعنى، والتكلم بالنظر إلى نقله بلفظه بعينه على سبيل الحكاية عنه. وأما جواز لفظه بالغيبة فمن باب التجريد، وهو أنه جرد من نفسه شخصا وأخبر عنه. قوله: (كنت جنبا) أي: ذا جنابة. قوله: (وأنا على غير طهارة) جملة اسمية وقعت حالا من الضمير المرفوع في أجالسك. (وأجالسك) في قوة المصدر بأن المصدر، وإنما فعل أبو هريرة هذا لأنه، عليه السلام، كان إذا لقي أحدا من أصحابه ماسحه ودعا له كما ورد في النسائي من حديث أبي وائل عن ابن مسعود. قال: (لقيني النبي صلى الله عليه وسلم وأنا جنب فاهوى إلي فقلت: إني جنب، فقال: إن المسلم لا ينجس). قوله: (سبحان الله)، سبحان علم للتسبيح، كعثمان، علم للرجل. وقال الفراء منصوب على المصدر كأنك قلت: سبحت الله تسبيحا فجعل: سبحان في موضع التسبيح والحاصل أنه منصوب بفعل محذوف لازم الحذف فاستعماله في مثل هذا الموضع يراد به التعجب، ومعنى التعجب هنا أنه كيف يخفى مثل هذا الظاهر عليك.
بيان استنباط الأحكام الأول: وقد عقد الباب له، أن المؤمن لا ينجس وأنه طاهر سواء كان جنبا أو محدثا حيا أو ميتا، وكذا سؤره وعرقه ولعابه ودمعه وكذا الكافر في هذه الأحكام وعن الشافعي قولان في الميت أصحهما الطهارة وذكر البخاري في (صحيحه) عن ابن عباس تعليقا. [حم (المسلم لا ينجس حيا ولا ميتا) [/ حم ووصله الحاكم في (المستدرك) فقال: أخبرني إبراهيم عن عصمة. قال: حدثنا أبو مسلم المسيب بن زهير البغدادي أخبرنا أبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة، قالا: حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [حم (لا تنجسوا موتاكم فإن المسلم لا ينجس حيا ولا ميتا) [/ حم قال: صحيح على شرطهما ولم يخرجاه، وهو أصل في طهارة المسلم حيا وميتا، أما الحي: فبالإجماع حتى الجنين إذا ألقته أمه وعليه رطوبة فرجها وأما الكافر فحكمه كذلك على ما نذكره، إن شاء الله تعالى. وفي (صحيح ابن خزيمة) عن القاسم بن محمد قال: سألت عائشة عن الرجل يأتي أهله ثم يلبس الثوب فيعرق فيه أنجس ذلك؟ فقالت: قد كانت المرأة تعد خرقة أو خرقا فإذا كان ذلك مسح بها الرجل الأذى عنه، ولم نر أن ذلك ينجسه، وفي لفظ: ثم صليا في ثوبهما وروى الدارقطني من حديث المتوكل ابن فضيل عن أم القلوص العامرية عن عائشة: (كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يرى على البدن جنابة، ولا على الأرض جنابة، ولا يجنب الرجل) وعن محيي السنة البغوي، قال: معنى قول ابن عباس: أربع لا يجنبن، الإنسان، والثوب، والماء، والأرض، يريد: الإنسان لا يجنب بمماسة الجنب، ولا الثوب، إذا لبسه الجنب، ولا الأرض إذا أقضى إليها الجنب، ولا الماء ينجس إذا غمس الجنب يده فيه.
وقال [قعابن المنذر [/ قع: أجمع عوام أهل العلم على أن عرق الجنب طاهر، وثبت ذلك عن ابن عباس وابن عمر وعائشة أنهم قالوا ذلك، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، ولا أحفظ عن غيرهم خلاف قولهما. وقال [قعالقرطبي [/ قع: الكافر نجس عند الشافعي، وقال أبو بكر ابن المنذر: وعرق اليهودي والنصراني والمجوسي طاهر عندي، وقال ابن حزم العرق من المشركين نجس لقوله تعالى: * (إنما المشركون نجس) * (سورة التوبة: 28) وتمسك أيضا بمفهوم حديث الباب، وادعى أن الكافر نجس العين والجواب عنه: أنهم نجسوا الأفعال لا الأعضاء أو نجسوا الاعتقاد، ومما يوضح ذلك أن الله تعالى أباح نكاح نساء أهل الكتاب، ومعلوم أن عرقهن لا يسلم منه من يضاجعهن، ومع ذلك لا يجب عليه من غسل الكتابية إلا مثل ما يجب عليه من غسل المسلمة، فدل على أن الآدمي الحي ليس ينجس العين إذ لا فرق بين النساء والرجال وفي (المدونة) على ما نقله ابن التين إن المريض إذا صلى لا يستند لحائض ولا جنب، وأجازه ابن أشهب. قال [قعالشيخ أبو محمد [/ قع: لأن ثيابهما لا تكاد تسلم من النجاسة. وقال غيره لأجل أعينهما لا لثيابهما، وما ذكرناه يرد بذلك، فإن قلت: على ما ذكرت من أن المسلم لا ينجس حيا ولا ميتا ينبغي أن يغسل الميت لأنه طاهر. قلت: اختلف العلماء من أصحابنا في وجوب غسله. فقيل: إنما وجب لحدث يحله باسترخاء المفاصل لا لنجاسته، فإن الآدمي لا ينجس بالموت كرامة، إذا لو نجس لما طهر بالغسل كسائر الحيوانات وكان الواجب الاقتصار على أعضاء الوضوء كما في حال الحياة. لكن ذلك إنما كان نفيا للحرج فيما يتكرر كل يوم، والحدث بسبب الموت لا يتكرر، فكان كالجنابة لا يكتفي فيها بغسل الأعضاء الأربعة، بل يبقى على الأصل، وهو وجوب غسل البدن لعدم الحرج، فكذا هذا. وقال العراقيون يجب غسله لنجاسته بالموت لا بسبب الحدث لأن للآدمي دما سائلا فيتنجس بالموت قياسا على غيره ألا ترى أنه لو مات في البئر نجسها؟ ولو حمله المصلي لم تجز صلاته ولو لم يكن نجسا لجازت كما لو حمل محدثا.
الثاني: من الأحكام فيه استحباب احترام أهل الفضل، وأن يوقرهم جليسهم ومصاحبهم، فيكون على أكمل الهيئات وأحسن الصفات، وقد استحب العلماء لطالب العلم أن يحسن حاله عند مجالسة شيخه، فيكون متطهرا متنظفا بإزالة الشعوث المأمور بإزالتها، نحو: قص الشارب، وقلم الأظفار، وإزالة الروائح المكروهة وغير ذلك.
الثالث: فيه من الآداب أن العالم إذا رأى من تابعه أمرا يخاف عليه فيه خلاف الصواب، سأله عنه وقال له صوابه وبين له حكمه.
الرابع: فيه جواز تأخير الاغتسال عن أول وقت وجوبه، والواجب أن لا يؤخره إلى أن يفوته وقت صلاة.
الخامس: فيه جواز انصراف الجنب في حوائجه قبل الاغتسال، ما لم يفته وقت الصلاة.
السادس: فيه أن النجاسة إذا لم تكن عينا في الأجسام لا تضرها فإن المؤمن طاهر الأعضاء، فإن من شأنه المحافظة على الطهارة والنظافة.
السابع: فيه ائتلاف قلوب المؤمنين، ومواساة الفقراء والتواضع لله، واتباع أمر الله تعالى حيث قال جل ذكره. * (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه) * (سورة). وقال بعضهم: وفيه: استحباب استئذان التابع للمتبوع إذا أراد أن يفارقه. قلت: هذا بعيد لأن الحديث المذكور لا يفهم منه ذلك لا من عبارته ولا من إشارته ولا فيه التابع والتبوع لأن أبا هريرة لم يكن في تلك الحالة تابعا للنبي صلى الله عليه وسلم في مشيه بل إنما لقيه النبي صلى الله عليه وسلم في بعض طرق المدينة، كما هو نص الحديث. وقال أيضا وبوب عليه ابن حبان الرد على من زعم أن الجنب إذا وقع في البئر فنوى الاغتسال أن ماء البئر ينجس. قلت: هذا الرد مردود حينئذ، لأن الحديث لا يدل عليه أصلا والحديث يدل بعبارته أن الجنب ليس بنجس في ذاته، ولم يتعرض إلى طهارة غسالته إذا نوى الاغتسال.
24 ((باب الجنب يخرج ويمشي في السوق وغيره)) باب بالتنوين أي هذا باب فيه الجنب يخرج إلى آخره، يعني له أن يخرج من بيته ويمشي في السوق وغيره وهذا قول أكثر الفقهاء إلا أن ابن أبي شيبة حكى عن علي وعائشة وابن عمر وأبيه وشداد بن أوس وسعيد بن المسيب ومجاهد وابن سيرين والزهري ومحمد بن علي والنخعي، وزاد البيهقي: سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمرو وابن عباس وعطاء والحسن أنهم كانوا إذا اجنبوا لا يخرجون ولا يأكلون حتى يتوضؤوا فإن قلت: لم كان باب بالتنوين ولم يضفه إلى ما بعده؟ قلت: يجوز ذلك ولكن يحتاج حينئذ أن يقدر الجواب نحو أن يقول له ذلك أو يجوز ذلك، ونحوهما وعند الانفصال لا يحتاج إلى ذلك. قوله: (ويمشي) بالواو وعطف على. قوله: (يخرج) وفي بعض النسخ: يمشي بدون: واو العطف، فإن صحت هذه يكون يمشي، في موضع النصب على الحال المقدرة. قوله: (وغيره) بالجر عطف على. قوله: (في السوق) وقال بعضهم: ويحتمل الرفع عطفا على يخرج من جهة المعنى (قلت) فيه لعسف لا يخفى والمناسبة بين البابين ظاهرة لأن كل منها في حكم الجنب نحو: يأكل وينام، عطفا على يخرج من جهة المعنى قلت: فيه تعسف لا يحفى.
والمناسبة بين البابين ظاهرة لأن كلا منهما في حكم الجنب.
وقال عطاء يحتجم الجنب ويقلم أظفاره ويحلق رأسه وإن لم يتوضأ
(٢٤٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 236 237 238 239 240 240 241 242 243 244 245 ... » »»