ما كانت هناك مطابع ولا كانت الكتابة متوفرة الأدوات فلو لم يخلق الله تعالى لهذا الدين في تلك العصور مثل هذه الأدمغة لنسي الناس الدين ولضاع في زمن وجيز من نسيان الناس له، ولما علم عز وجل أن الأذهان تضعف وأن القوى الحافظة لا تكاد تمسك شيئا في مثل هذه الأزمنة خلق لنا المطابع فحفظت بواسطتها الشريعة في بطون الاسفار فسبحان الحكيم العليم.
ذكر شيئا من شمائله رضي الله عنه: كان أعظم الناس مروءة وأكثرهم سمتا، كثير الصمت قليل الكلام متحفظا في قوله، من أشد الناس مداراة للناس واستعمالا للانصاف. وكان إذا أصبح لبس ثيابه وتعمم ولا يراه أحد من أصدقائه ولا أهله إلا كذلك، وما أكل قط ولا شرب حيث يراه الناس، ولا يضحك ولا يتكلم فيما لا يعنيه. وكان من أحسن الناس خلقا مع أهله وولده ويقول: في ذلك مرضاة لربك ومثراة في مالك ومنسأة في أجلك.
وأما مبلغ تعظيمه لحديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فقد قال مطرف: كان مالك إذا أتاه الناس خرجت إليهم الجارية فتقول لهم: يقول لكم الشيخ تريدون الحديث أو المسائل فإن قالوا المسائل خرج إليهم وأفتاهم، وإن قالوا الحديث قال لهم اجلسوا ودخل مغتسله وتطيب ولبس ثيابا جددا وتعمم ووضع على رأسه طويلة وتلقى له المنصة فيخرج إليهم وعليه الخشوع ويوضع عود فلا يزال يتبخر حتى يفرغ من حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلدغته عقرب ست عشرة مرة وما لم يتغير لونه ويصفر ولا يقطع حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما فرغ من المجلس وتفرق الناس قلت: يا أبا عبد الله لقد رأيت اليوم منك عجبا. فقال: نعم إنما صبرت إجلالا لحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وليس بعد هذا أدب ينتظر أن يتأدب به أحد مع حديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
وأما تحريه في الفتيا خوفا من الله تعالى: فقد قال ابن القاسم: سمعت مالكا يقول: إني لأفكر في مسألة منذ بضع عشرة سنة ما اتفق لي فيها رأي إلى الان. وقال ابن عبد الحكم: كان مالك إذا سئل قال للسائل: انصرف حتى أنظر فينصرف ويتردد فيها فقلنا له في ذلك فبكى وقال إني أخاف أن يكون لي من المسائل يوم وأي يوم. وكان رضي الله عنه يقول: من أحب أن يجيب عن مسألة فليعرض نفسه على الجنة والنار وكيف يكون خلاصه في الآخرة ثم يجيب. وقال: ما من شئ أشد علي من أن أسأل عن مسألة من الحلال والحرام لأن هذا هو القطع في حكم الله ولقد أدركت أهل العلم ببلدنا وإن أحدهم إذا سئل عن المسألة كأنما الموت أشرف عليه. وقال الهيثم بن جميل: شهدت مالكا سئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنين وثلاثين منها لا أدري ومن أجل هذا قال موسى بن داود: ما رأيت أحدا من العلماء أكثر أن يقول لا أدري أحسن من مالك. وكان رضي الله عنه يقول: ينبغي أن يورث العالم جلساءه قول لا أدري حتى يكون ذلك أصلا في أيديهم يفزعون إليه فإذا سئل أحدهم عما لا يدري قال لا أدري.
وأما حال الناس في مجلسه رضي الله عنه: فقد قال الواقدي: كان مجلسه مجلس وقار وحلم وكان رجلا مهيبا نبيلا ليس في مجلسه شئ من المراء واللغط ولا رفع صوت، وكان إذا سئل فأجاب سائله لم يقل له من أين هذا، وكان الثوري في مجلسه فلما رأى إجلال الناس له وإجلاله للعلم أنشد:
يأبى الجواب فلا يراجع هيبة * والسائلون نواكسو الأذقان أدب الوقار وعز سلطان التقى * فهو المهيب وليس ذا سلطان وكان يقول في فتياه: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، ولا يدخل الخلاء إلا كل ثلاثة أيام مرة ويقول: والله قد استحيت من كثرة ترددي للخلاء ويرخي الطيلسان على رأسه حتى لا يرى ولا يرى. وقيل له: كيف أصبحت؟ فقال: في عمر ينقص وذنوب تزيد. ولما ألف الموطأ اتهم نفسه في الاخلاص فيه فألقاه في الماء وقال: إن ابتل فلا حاجة لي به فلم يبل شئ منه.
ما جاء من الثناء عليه: قال ابن هرمز لجاريته يوما: من بالباب؟ فلم تر إلا مالكا فذكرت ذلك له فقال: ادعيه فإنه عالم الناس. وقال ابن مهدي: ما بقي على وجه الأرض آمن على حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من مالك.
وقال أبو داود: أصح حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مالك عن نافع عن ابن عمر ثم مالك عن الزهري عن