شرح إحقاق الحق - السيد المرعشي - ج ٣٢ - الصفحة ٣٠٦

فغضب عمرو، وأخذته حمية الجاهلية، واقتحم عن فرسه وعقره، ثم هجم على علي الذي تلقاه بعنفوان أشد، وخاضا معا نزالا رهيبا، لم تطل لحظاته حتى رفع علي سيفه المنتصر، في حين كان خصمه عمرو بن عبد ود مجندلا على الأرض صريعا. وعاد علي إلى صفوف المسلمين، تستقبله تحيات شاعرهم:
نصر الحجارة من سفاهة رأيه * ونصرت رب محمد بصواب لا تحسبن الله خاذل دينه * ورسوله، يا معشر الأحزاب وقبل أن نستطرد مع مشاهد بطولته الخارقة، يحسن بنا أن نتذكر ما قلناه من قبل، ألا وهو أن بطولة علي كانت تزدان بكل شرف الرجولة. ولم تكن قط في خدمة هوى أو زهو. إنما كانت في خدمة تلك المبادئ العلى التي هداه الله إليها والتي آمن بها علي أوثق الإيمان.
من أجل هذا لا نعثر على مشهد واحد من مشاهد بطولته، يمثل عدوانا، أو بهتانا.
وبطولته على الرغم من شموخها، واقتدارهما، كانت بطولة مسالمة عاقلة، عادلة.
ففي هذه البطولة التقت شدة البأس ولين الجانب لقاء موفقا.
من أجل هذا نجد الرسول عليه السلام يندبه في مهام الحرب والقتال لتلك التي تتطلب حظا وافرا من ضبط النفس ولين الجانب، وفي هذا تزكية لبطولته وإطراء.
في ذلك اليوم المشهود يوم فتح مكة كان الزعيم الأنصاري سعد بن عبادة يحمل الراية على كتيبة كبيرة من المسلمين.
ولك تكد تتراءى له مشاهد مكة، حتى استجاشته ذكريات عداء قريش للرسول ولصحبه، فصاح قائلا وسط نشوة الظفر التي تستخف الأحلام: اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الكعبة. قالوا: وسمعه بعض الصحابة فروعهم هذا النداء.
وسارع عمر بن الخطاب إلى النبي عليه السلام ونقل إليه كلمات سعد، وقال معقبا عليها: يا رسول الله، ما نأمن أن يكون لسعد في قريش صولة. وعلى الفور، نادى الرسول عليا وقال له: أدرك سعدا، وخذ الراية منه فكن أنت الذي تدخل بها.
علي الذي شهد كل الأذى الذي صبته قريش على ابن عمه ورسوله، علي الذي يحمل طاقة زاخرة فوارة تحرك الجبال، علي، وهذا يومه، حيث يتوقع منه بأس المقاتل، وزهو المنتصر يختاره أعرف الناس به لمهمة قهر الزهو، ونسيان الثار مهمة دخول مكة المفتوحة، في تواضع وإخبات، وسلام.
ومشهد آخر، يعرفنا بجمال هذه البطولة، وانسانيتها، وما كانت تتمتع به من أناة، ومعدلة.
فبعد فتح مكة، أرسل الرسول إلى من حولها من القبائل سرايا تدعوها إلى الله في غير قتل لها، أو حرب معها.
وكان خالد بن الوليد على رأس إحدى هذه السرايا. أمره الرسول أن يسير بأسفل تهامة داعيا، لا مقاتلا. وعند قبيلة بني خزيمة بن عامر، تصرف أحد رجالها تصرفا تسرع تجاهه خالد فأعمل فيهم السيف.
ونمى الخبر إلى رسول الله، فغضب وحزن وبرئ إلى الله مما صنع خالد بن الوليد، ثم رأى عليه السلام أن يبادر بإرسال رسول سلام، وكان ابن أبي طالب هو الرسول المختار. دعاه رسول الله إليه، وقال له: يا علي أخرج إلى هؤلاء القوم، فانظر في أمرهم، واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك. وأعطاه الرسول من المال ما يكفي لديه القتلى، وتعويض أهلهم عن كل خسارة حاقت بهم، وقام علي بالمهمة خير قيام.
وهكذا، حيث تضرى البطولات، وتستعلى الأناة والحكمة يكون علي هو الرجل وهو البطل الذي يختاره الرسول ليقيم الميزان بالقسط، ويمزج القصاص بالعدل، والقوة بالرحمة، ويضع الشجاعة تحت إمرة السداد والأناة والحكمة.
وإذا كان الفضل ما يشهد به الأعداء، فلنستمع في هذا المقام لشهادة أبي سفيان أيام شركه ووثنيته.
فعندما نقضت قريش عهدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستخار النبي ربه في الخروج إلى مكة لفتحها، نمى الخبر إلى قريش فسقط في يدها، وأرسلت أبا سفيان إلى المدينة، ليعتذر إلى الرسول، وليسأله الموافقة على المعاهدة التي كانت بينهما، والتي أبرمت يوم الحديبية.
ونزل أبو سفيان المدينة وقابل زعماء المسلمين راجيا أن يزكوا مهمته عند الرسول فكلهم رفض. بل إن ابنته أم حبيبة وكانت إحدى زوجات النبي أبت أن تجلسه على فراش رسول الله، وكان مبسوطا في فناء حجرتها ساعة دخوله عليها فطوته عنه، ولما عاتبها في صنيعها هذا أجابته قائلة: إنك مشرك وفراش رسول الله لا يطؤه مشركون.
ولما عاد إلى مكة خائب المسعى، جلس يحدث قريشا عن محاولته، فقال فيما قال: وجئت ابن أبي قحافة يعني أبا بكر فلم أجد منه عونا وجئت ابن الخطاب، فوجدته أعدى العدو لقد قال لي: أأنا أشفع لكم عند رسول الله؟ والله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به، وجئت عليا فوجدته ألين القوم.
أجل في هذه المناسبة بالذات، حيث لا يتوقع من علي كرم الله وجهه سوى بأس المقاتل، وتشفى صاحب الثار، نجد لين الجانب ورحمة الغلب يسمان موقفه وتصرفه.
وبشهادة من؟ بشهادة خصمه أبي سفيان زعيم قريش يومئذ وقائد جيوشها، وحامل لواء وثنيتها.
ذلكم هو نوع البطولة التي أفاءتها مقادير علي عليه.
بطولة، يقودها العقل لا العاطفة.
بطولة، تحكمها أخلاقياتها النبيلة السامية، فلا تستعلي على الرحمة ولا تزيغ عن الحق ولا تتنكب طريق الأناة والحكمة.
وبهذه البطولة وقف علي تحت راية الرسول في حياته وبعد مماته، بهذه البطولة الشهمة العادلة، قاتل المشركين، فما تخلف عن غزاة ولا عن مشهد أبدا. إلا غزاة واحدة أمره الرسول بعدم الخروج إليها ليكون خليفته في المدينة على أهله.
ولما تململت روح البطل إزاء هذا التخلف أرضاه الرسول بقوله على ملاء من أصحابه: أما يرضيك أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي.
وبهذه البطولة الشهمة العادلة، سيخوض قتاله مع معاوية ومع الخوارج.
وسيواجه الفتن الحالكة التي تدع الحليم حيران، بأخلاقه الطاهرة، قبل أن يواجهها بمقدرته القاهرة.
لن يجد بأسا أي بأس في أن يخسر ألف معركة، ولكنه لن بسمع للظروف مهما تبلغ ضراوتها وشدتها أن تسلبه فضيلة واحدة من فضائل نفسه وفضائل دينه.
والحق أن معارك الحروب الأهلية التي اضطر الإمام لخوضها كانت أعظم مجالي عظمته، ورجولته، ونبله. فإلى هناك لنرى بعض مشاهدها.
إن منصة الأستاذية قد رفعت فوق المشقة والهول، وقد علاها البطل والمعلم ليرى الدنيا على الطبيعة كيف تعمل البطولات العظيمة في نبل، واستقامة، وشرف.
(٣٠٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 306 306 306 306 306 306 332 333 334 335 336 ... » »»
الفهرست
الرقم العنوان الصفحة
1 مستدرك ترجمة الإمام على عليه السلام 3
2 مستدرك ألقابه عليه السلام وكناه الشريفة 32
3 مولد علي عليه السلام 33
4 تزويج أمير المؤمنين بفاطمة الزهراء عليهما السلام 41
5 حديث: علمني ألف باب يفتح من كل باب ألف باب 50
6 حديث: قسمت الحكمة عشرة أجزاء فأعطى على تسعة 57
7 كلام ابن عباس في علم علي عليه السلام 57
8 حديث: أنا مدينة العلم وعلي بابها 58
9 حديث: سلوني قبل أن تفقدوني 58
10 قول على عليه السلام: سلوني عن طرق السماوات فإني أعلم بها من طرق الأرض 68
11 جوابه عليه السلام لليهود 69
12 لأمير المؤمنين علم ظاهر كتاب الله وباطنه 70
13 أول من وضع علم النحو علي بن أبى طالب عليه السلام 77
14 علمه عليه السلام بالجفر 87
15 ما ورد أن أمير المؤمنين كان أفرض أهل المدينة وأقضاها 93
16 مستدرك أقضى الأمة علي عليه السلام 101
17 حديثه وحديث ابن عباس في ذلك 101
18 حديث جابر وأنس بن مالك 102
19 حديث عبد الله بن مسعود 103
20 قول عمر علي أقضانا 106
21 قصة زبية الأسد وقضاء علي عليه السلام 120
22 قضاؤه عليه السلام في الأرغفة 125
23 أمر علي عليه السلام الزوجين أن يبعثا حكما من أهلهما 129
24 من أقضيته عليه السلام 131
25 أول من فرق الخصوم علي عليه السلام 173
26 جلد شراحة يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة 173
27 قضاؤه في الخنثى المشكل سأله معاوية 174
28 قضاؤه في ثلاثة نفر وقعوا على امرأة ولدت 175
29 عدل علي عليه السلام في الحكومة 189
30 ما ورد في زهد أمير المؤمنين وعدله وإنفاقه في سبيل الله تعالى 212
31 من عدله أمره بكنس بيت المال ثم ينضحه ويصلى فيه ولم يحبس فيه المال عن المسلمين 250
32 زهد علي عليه السلام وعدله 255
33 عفوه عليه السلام وحلمه وصفحه عن عدوه 288
34 من عدله ما أوصاه في قاتله بإطعامه وسقيه والاحسان إليه وعدم التمثيل به 289
35 خوفه عليه السلام من الله تعالى 296
36 إنفاقه في سبيل الله تعالى 297
37 إعطاؤه عليه السلام حلة للسائل الذي كتب حاجته على الأرض بأمره 297
38 صدقات علي عليه السلام 301
39 شجاعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام 305
40 قتل أمير المؤمنين حية وهو في المهد صبي 338
41 مبيته علي فراش رسول الله صلى الله عليه وآله ليلة الهجرة 339
42 ان عليا كان معه راية رسول الله " ص " في بدر وأحد وغيرهما 341
43 ما ورد في شجاعته عليه السلام يوم بدر 344
44 ما ورد في شجاعته عليه السلام يوم أحد 351
45 لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي 357
46 ما ورد في شجاعته عليه السلام يوم الأحزاب 363
47 ما ورد في شجاعته يوم خيبر 374
48 ما ورد في شجاعته يوم حنين والطائف 396
49 شجاعته عليه السلام في بنى قريظة 399
50 شجاعته عليه السلام في حرب جمل 399
51 إخبار النبي " ص " لعلي عما يكون بينه وبين عائشة 403
52 قول النبي لأزواجه: أيتكن صاحبة الجمل تنبحها كلاب الحوأب 405
53 جعل رسول الله " ص " طلاق نسائه بيد علي في حياته وبعد مماته 412
54 إخفاء عائشة اسم أمير المؤمنين علي عليه السلام 414
55 قصة حرب الجمل 417
56 ما صدر من شجاعته عليه السلام يوم صفين 513
57 قتل مع علي بصفين من البدريين خمسة وعشرون بدريا 520
58 شجاعته عليه السلام يوم النهروان 523
59 الخوارج والأخبار الواردة فيهم عن النبي والوصي عليهما السلام 523
60 ذم الخوارج وسوء مذهبهم وإباحة قتالهم 536
61 إخباره عليه السلام عن الخوارج وعن ذي ثديتهم 537
62 اخبار النبي " ص " عن الخوارج المارقة 582
63 اخبار النبي " ص " عن شهادة علي عليه السلام 595
64 حديث أنس بن مالك 595
65 حديث أبى رافع 596
66 حديث جابر بن سمرة 597
67 اخباره عليه السلام عن شهادة نفسه 603
68 حديث محمد بن الحنفية 603
69 حديث فضالة بن أبى فضالة 604
70 حديث الأصبغ بن نباتة الحنظلي 606
71 حديث زيد بن وهب 609
72 حديث أبى مجلز وأبى الأسود 610
73 حديث أبى الطفيل 611
74 حديث نبل بنت بدر 613
75 حديث سالم بن أبى الجعد 614
76 حديث عبيدة وأم جعفر 615
77 حديث عثمان بن مغيرة 616
78 حديث كثير وروح بن أمية 617
79 حديث يزيد بن أمية الديلي 618
80 حديث عبد الله بن سبع 619
81 حديث ثعلبة بن يزيد الحماني 620
82 حديث والد خالد أبي حفص 620
83 ما روى جماعة مرسلا 621
84 استشهاد أمير المؤمنين بيد أشقى الناس ابن ملجم 624
85 قول علي عليه السلام: فزت ورب الكعبة 643
86 إن قاتل علي عليه السلام أشقى الأولين والآخرين وأشقى الناس 644
87 وصايا أمير المؤمنين حين رحلته إلى دار البقاء 653
88 تاريخ شهادته عليه السلام وسني عمره حين الشهادة 662
89 محل دفن جثمانه الشريف 667
90 حنوط علي من فضل حنوط رسول الله " ص " 673
91 قتل ابن ملجم اللعين 673
92 أزواجه عليه السلام 674
93 أولاده الأشراف السادة 678
94 بعض مراثيه عليه السلام 686