ما غاب عنه وما يتطرق إليه من خطر الزوال، عظم نعيمه ولذته، وغلب عليه الأنس بالله، ولم تكن شهوته إلا في الانفراد والخلوة، وذلك لأن الأنس بالله يلازمه التوحش من غير الله، بل كلما يعوق من الخلوة يكون أثقل الأشياء على القلب، كما روي: (أن موسى (ع) لما كلمه ربه، مكث دهرا لا يسمع كلامه أحد من الخلق إلا أخذه الغشيان)، لأن الحب يوجب عذوبة كلام المحبوب وعذوبة ذكره، فيخرج عن القلب عذوبة ما سواه فإن خالط الناس كان كمنفرد في جماعة، ومجتمع في خلوة، وغريب في حضر، وحاضر في سفر، وشاهد في غيبة، وغائب في حضور، ومخالط بالبدن، متفرد بالقلب المستغرق في عذوبة الذكر، قال أمير المؤمنين (ع) في وصفهم: (هم قوم هجم بهم العلم على حقيقة الأمر، فباشروا روح اليقين، واستلانوا ما استوعره المترفون، وأنسوا بما أستوحش منه الجاهلون، صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها متعلقة بالمحل الأعلى، أولئك خلفاء الله في أرضه، والدعاة إلى دينه).
فصل الأنس بالله من أنكر وجود الحب والشوق أنكر وجود الأنس أيضا، ظنا أنه يدل على التشبيه، وهو ناش عن الجهل بالابتهاجات العقلية واللذات الحقيقية وعن القصور في طريق المعرفة، والجمود على أحكام الحس، والغفلة عن عالم العقل والبصيرة، وقد ظهر ثبوت الأنس من بعض الأخبار السابقة، ويدل عليه ما ورد في أخبار داود: (إن الله عز وجل أوحى إليه: يا داود!
أبلغ أهل أرضي: إني حبيب لمن أحبني، وجليس لمن جالسني، ومؤنس لمن أنس بذكري. وصاحب لمن صاحبني، ومختار لمن اختارني، ومطيع لمن أطاعني، ما أحبني عبد أعلم ذلك يقينا من قلبه إلا قبلته لنفسي، وأحببته حبا لا يتقدمه أحد من خلقي، من طلبني بالحق وجدني، ومن طلب غيري لم يجدني، فارفضوا يا أهل الأرض ما أنتم عليه من غرورها، وهلموا إلى كرامتي ومصاحبتي ومجالستي، وآنسوا بي أوانسكم، وأسارع إلى محبتكم).
ج: 3