لتلك الزنابير عليه، قد صرف باله بأجمعه إلى ذلك، غير ملتفت إلى ما فوقه وإلى ما تحته. فالبئر هو الدنيا، والحبل هو العمر، والثعبان الفاتح فاه هو الموت، والجرذان الليل والنهار القارضان للعمر، والعسل المختلطة بالتراب هو لذات الدنيا الممتزجة بالكدورات والآلام، والزنابير هم أبناء الدنيا المتزاحمون عليها.
وشبه بعض العرفاء الدنيا وأهلها، في اشتغالهم بنعيمها وغفلتهم عن الآخرة، وحسراتهم العظيمة بعد الموت، من فقدهم نعيم الجنة بسبب انغمارهم في خسائس الدنيا: بقوم ركبوا السفينة، فانتهت بها إلى جزيرة، فأمرهم الملاح بالخروج لقضاء الحاجة، وحذرهم المقام فيها، وخوفهم مرور السفينة واستعجالها، فتفرقوا في نواحي الجزيرة، فقضى بعضهم حاجته، وبادر إلى السفينة، فصادف المقام خاليا، فأخذ أوسع الأماكن وأوفقها بمراده.
وبعضهم توقف في الجزيرة، واشتغل بالنظر إلى أزهارها وأنوارها وأشجارها وأحجارها ونغمات طيورها، ثم تنبه لخطر فوات السفينة، فرجع إليها، فلم يصادف إلا مكانا ضيقا، فاستقر فيه. وبعضهم، بعد التنبه لخطر مرور السفينة، لما تعلق قلبه ببعض أحجار الجزيرة وأزهارها وثمارها، لم تسمح نفسه بإهمالها، فاستصحب منها جملة ورجع إلى السفينة، فلم يجد فيها إلا مكانا ضيقا لا يسعه إلا بالتكلف والمشقة، وليس فيه مكان لوضع ما حمله، فصار ذلك ثقلا عليه ووبالا، فندم على أخذها، ولم يقدر على رميها، فحملها في السفينة على عنقه متأسفا على أخذها، وبعضهم اشتغل بمشاهدة الجزيرة، بحيث لم يتنبه أولا من خطر مرور السفينة ومن نداء الملاح، حتى امتلأت السفينة، فتنبه أخيرا ورجع إليها، مثقلا بما حمله من أحجار الجزيرة وحشائشها، ولما وصل إلى شاطئ البحر سارت السفينة ولم يجد فيها موضعا أصلا، فبقي على شاطئ البحر. وبعضهم لكثرة الاشتغال بمشاهدة الجزيرة وما فيها نسوا المركب بالمرة، ولم يبلغهم النداء أصلا، لكثرة انغمارهم في أكل الثمار وشرب المياه والتنسم بالأنوار والأزهار والتفرج بين الأشجار، فسارت السفينة وبقوا في الجزيرة من دون تنبههم بخطر مرورها، فتفرقوا فيها، فبعضهم نهشته العقارب والحيات، وبعضهم