بأسباب النعمة من رجال الدولة وعلى كل محتكر لموارد الثروة من دون فئات المجتمع كلها؟ كيف يستطيع ان لا يحقد على هؤلاء جميعا حين يرى إلى هذا الحمال الأعمى كما وصفه في هذه القطعة الإنسانية البارعة:
رأيت حمالا حبيس العمى * يعثر في اأكم وفي الوهد محتملا ثقلا على رأسه * تضعف عنه قوة الجلد بين جمالات وأشباهها * من بشر ناموا على المجد وكلهم يصدمه عامدا * أو تائه اللب بلا عمد والبائس المسكين مستسلم * أذل للمكروه من عبد وما أشتهي ذاك ولكنه * فر من اللؤم إلى الجهد فر إلى الحمل على ضعفه * من كلمات المكثر الوغد أ هذا هو الحسد والحقد ولؤم الطبع في ابن الرومي؟ أ ترى ما يكون الحق على الظالمين والمحتكرين لؤما، أم تراه يكون نبلا ورحمة وسموا؟...
فابن الرومي إذا كان ذا طبيعة انسانية رحيمة وكان ألمه لنفسه ولغيره، اي لحرمانه وحرمان غيره من الجماهير في مجتمعه، وكان احساسه بالظلم ليس احساسا ساذجا سلبيا، ولكن كان احساسا واعيا يعرف الأسباب والمصادر، ويحسن تعليل الظلم وتعليل النوازع النفسية التي تتأثر بالظلم.
حفا كان ابن الرومي ساخرا، وذلك لأن سخريته كانت على قدر استخفافه بمن يملكون الجاه والسلطان، أو يملكون الشرف والنعيم، وهم دون غيرهم كفاءة وموهبة وعقلا وأدبا. وعلى قدر ما يرى في مجتمعه ذاك من شخوص تقعد في غير مقاعدها، ومن أوضاع تجري في غير مجاريها، فإذا كل ما في المجتمع مقلوب يثير السخر والتندر فكان ابن الرومي لذلك أقدرن الساخرين وأبرع شاعر أو كاريكاتوري عرفته عصور الأدب العربي.
تطيره لقد كانت الدولة تجفو هذا الشاعر وتبخسه قدره يضاف إلى هذا انه كان على شئ كثير من رهافة الحس وسرعة التأثر والانفعال ببواعث الألم، وان بواعث الألم هذه تكثر في حياته وتكثر في مجتمعه الذي كان يشرف يومئذ على الانحلال الاجتماعي والانهيار الاقتصادي بما كان ينخر في جسم الدولة من علل الفساد والبغي والاستئثار.
ويضاف إلى هذا أيضا ان الشاعر كان يرى إلى كثير من المقربين في مجالس الخلفاء وكبار رجال الدولة تغدق عليهم ألوان الترف والنعم وهو كان يعلم أن أحدا منهم لم يستحق شيئا من هذا بكفاءته وموهبته وانما استحقه بمجرد اتقانه فن الخداع والزلفى وأساليب المكر والرياء.
ثم يضاف إلى كل ما تقدم ان ابن الرومي لم يكن على بسطة في عيشه بل كان في أكثر أيامه في ضيق العيش محتاجا إلى المعونة، وما كان له من مورد يكفيه الطلب إلى اخوانه أو إلى بعض ممدوحيه سوى موارد ضئيلة جار عليه الناس فاغتصبوه إياها ولم يسعفه أحد بدفع العدوان عنه.
وقد امتحن إلى هذا كله محنته العاطفية إذ فقد أولاده الثلاثة ثم فقد امه فأخاه الأوحد فزوجه. وكان اثر هذه الفواجع على حسه عنيفا وعلى عصبه الضعيف وطبعه الانفعالي.
وهكذا اجتمعت على ابن الرومي كل هذه الأسباب والعوامل فإذا هو أضعف من أن يطيق احتمالها، وإذا هو ينقلب انسانا يرى الحياة ظلاما وقتاما وشؤما، ثم إذا كل خاطر من خواطر السوء وكل هاجس من هواجس النحس يتجسم في نظره ويكبر حتى صار معدودا في التاريخ من المتطيرين وحتى ضربت الأمثال بطيرته وتشاؤمه.
ومن هنا يظهر بوضوح ان طيرة ابن الرومي جاءت من خارج نفسه، اي من ظروف حياته كلها، وليست طبعا أصيلا قد خلقت فيه.
وينبغي ان نشير أيضا إلى أن هذه الأخبار نفسها التي يرويها الرواة عن طيرته وتشاؤمه مطعونة بالغلو والمبالغة.
مكانته عند العرب والمستشرقين لم يلق شاعر من شعراء العربية ما لقيه ابن الرومي من إغفال مقصود أو غير مقصود لفنه ومواهبه في الأدب العربي... غير أنه لم يعدم بعض النقاد الذين انصفوه وتعرضوا لبعض أشعاره. فالمرزباني عقد موازنة طريفة بينه وبين البحتري في الهجاء، وانتصر له. وقال عنه ابن رشيق: انه أكثر المولدين اختراعا. ومدحه ابن شرف القيرواني بقوله: انه شجرة الاختراع وثمرة الابداع، وله في الهجاء ما ليس له في الاطراء، فتح فيه أبوابا، ووصل منه أسبابا،. وأشاد بشعره وصياغته ابن خلكان، وأبو علي القالي، وبديع الزمان الهمذاني، وأبو هلال العسكري، وابن عمار، والثعالبي، وغيرهم.
وحظي ابن الرومي بعناية بعض المستشرقين الكبار ونال اعجابهم.
فالمستشرق الألماني يرو كلمن تحدث عنه في الجزء الأول من كتابه المشهور في تاريخ الأدب العربي. والمستشرق الفرنسي أميل درمنجهم اختار له أربع قصائد كأجمل ما في النصوص العربية وترجمها إلى الفرنسية. والأستاذ الفرنسي كليمان هيوار أشاد بشعره واعجب بجمال تعبيراته وأفكاره.
خلاصة القول في شاعريته في أي باب من أبواب الشعر كان ابن الرومي يجيد خاصة؟ سؤال لا بد ان يخطر في بالنا في معرض الكلام على صناعته وأسلوبه وأرى ان الكثيرين سيقولون أو قالوا إنه هو باب الهجاء لأنه اشتهر به وشاع انه مات بسببه، فلنعلم انهم مخطئون في هذا الحكم لان ابن الرومي كان يجيد في أبواب الشعر كلها على حد سواء، ويعطي قصائده جميعا بمقدار واحد من عنايته واتقانه.
وخذ مثلا أقواله في الحكمة وهي أقل ما اشتهر به تجد له مئات من الأبيات التي تسير مسير الأمثال وتخرج عن عداد تلك الأفكار المطروقة التي يتفيهق بها من يحبون الاشتهار بالبيت الحكيم والمثل السائر، ولو اننا، رجعنا إلى أبياته لما ألفينا بينها تفاوتا في الطبقة بين غرض وغرض وباب وباب، وانما اشتهر بالهجاء لان الهجاء أشهر وأسير، لا لأنه يجيد فيه أكثر من اجادته في المديح أو بالوصف البارع.
وأغرب من هذا الاستواء في طبقة القول انك تقرأ أشعاره فتحسب انها نظمت كلها في عمر واحد فلا تدري أيها شعر الشباب وأيها شعر