الراوي وفيما يلي هذان الرأيان المختلفان:
يبدأ الأستاذ مارون عبود رأيه في صفي الدين في ص 309 من كتابه الرؤوس حيث يقول: إن خير ما سمعنا من الأصوات في هذه الحقبة، صوتان ارتفعا في آن واحد، اولهما في العراق وهو صوت صفي الدين الحلي، الشاعر الذي استعبدته الصناعة اللفظية حتى اجتمعت في شعره جميع معايبها. كان صفي الدين كالطفيليات يعيش على جذوع الأقدمين، فخمس وضمن، ثم حاول اجتراع العجائب في الشعر كما كان يظن فراح ينظم لسلطانه الذي فزع إليه من ظلم المغول قصائد سماها درر النحور في مدائح الملك المنصور وهي تسع وعشرون قصيدة على كل حرف من حروف المعجم، يبدأ بالحرف البيت ثم يختمه، واليك نموذجا منها:
مغانم صفو العيش اسمى المغانم * هي الظل الا انه غير دائم ملكت زمام العيش فيها وطالما * رفعت بها لولا وقوع الجوازم أ رأيت كيف يبدأ بالميم التي هي قافية قصيدة، ثم أ رأيت الرفع والجزم؟ ان صفي الدين لم يدع جريمة أدبية في النظم الا ارتكبها. قال القصائد طويلة وقصيرة، والموشحات والازجال، كما نظم ابن مالك النحو والصرف، نظم الحلي بديعية مطلعها:
إن جئت سلعا فسل عن جيرة العلم * وأقر السلام على عرب بذي سلم إلى أن يقول الأستاذ مارون:
وهكذا لا نرى للحلي شيئا جديدا إن كان هذا شيئا الا سبقه إلى نظم فنون البديع في قصيدة، ولكن بديعيته لم تصب من السيرورة ما أصابته بديعية الحموي فركدت ريحها.
إما شعر الحلي فجار حين يتبع سجيته، ولكنه لا يخرج ابدا من دائرة التقليد فهو يعارض قصيدة المتنبي ليقول من الجناس:
أسبلن من فوق النهود ذوائبا * فتركن حبات القلوب ذوائبا بيض دعاهن الغبي كواعبا * ولو استبان الرشد قال كواكبا ثم شاء ان يكون له شعر مثل شعر البهاء زهير فقال ناحيا نحوه:
ان غبت عن عياني * يا غاية الأماني فالفكر في ضميري * والذكر في لساني ما حال عنك عهدي * ولا انثنى لساني شوقي إليك باق * والصبر عنك فاني وشاء أيضا ان يتعنتر فقال قصيدة معارضا بها قصيدة حكم سيوفك ومد يده إلى نجم الشعر العربي فاخذ قوله:
تماشى بأيد كلما وافت الصفا * نقشن به صدر البزاة حوافيا فقال وقصر تقصيرا شائنا:
فتظل ترقم في الصخور أهلة * بسنا حوافرها وان لم تنعل إما الباقي على الألسن من شعر هذا الفاضل فقصيدته المشهورة:
سلي الرماح العوالي عن معالينا * واستشهدي البيض هل خاب الرجا فينا إلى أن يقول مارون عبود في مجال التفضيل بين صفي الدين وابن نباتة: وإذا سألتني أيهما أسبق، أ صفي الدين أم ابن نباته، قلت لك كلاهما مقصر، ولكن الحلي يسبق صاحبه بضع خطوات.
هذا هو نص رأي ناقد كبير شهير من نقاد عصرنا في أكبر شاعر في عصره، وهو رأي لا يخلو من التحامل إذا وضعناه على المحك...
انا لا أبرئ صفي الدين من الصناعة اللفظية، مصيبة أبناء زمانه، إما ان تجتمع في شعره جميع معايب الصناعة اللفظية، فقول مردود، لان أكثر شعره منزه عن هذه الهنة ما خلا شعره الذي يخرج به عن نطاق سجيته فينظمه للبراعة ليس الا. ولا أدري كيف جاز لمارون عبود ان ينعت صفي الدين الشاعر المتميز بأصالته، بالطفيلي الذي يعيش على جذوع الأقدمين، كل ذلك لأنه يخمس ويضمن... وليس التخميس والتضمين من علامات عجز الشاعر في كل الأحوال، فقد يضيف التخميس والتضمين روعة تفوق روعة الأصل أو تدانيها. أما التخميس والتضمين لمجرد اظهار البراعة فشئ لا شك مرذول يأباه الشاعر المبدع. وتخميسات وتضمينات صفي الدين لم تكن لمجرد اظهار البراعة، وانما جاءت، في أغلب الأحوال لاتفاقه مع بعض الشعراء في فكرة القصيدة وغايتها. وكثيرا ما يمر صفي الدين بتجربة مماثلة لتجربة شاعر آخر فيكون التخميس والتضمين من دواعي التقاء التجربتين. من ذلك تخميسه للامية السموأل الشهيرة. والمعروف عن هذه اللامية انها تزخر بالفخر والتحدي، وكان صفي الدين جديرا بالفخر والتحدي لأنه كان من عشيرة عربية ترفض الضيم وتأبى الهوان...
ولا ندري ما هي الجرائم الأدبية التي ارتكبها شاعرنا صفي الدين في نظر الأستاذ مارون؟ أ يكون مجرما، في مجال الأدب، لأنه نظم القصائد الطويلة والقصيرة؟! والقصائد، بطبيعتها، إما أن تكون طويلة أو قصيرة... أم لأنه نظم الموشحات والازجال؟ ومتى كانت الموشحات والازجال خالية من الرقة والابداع لا سيما إذا صدرت عن شاعر موهوب كصفي الدين الحلي، واما ان تبقى على الألسنة قصيدته النونية المشهورة:
سلي الرماح العوالي عن معالينا * واستشهدي البيض هل خاب الرجا فينا فليس الذنب في ذلك ذنب صفي الدين وانما هو ذنب الطريقة الببغائية في حفظ الشعر التي ابتلينا بها. فنحن ما نكاد نسمع بالقصيدة المشهورة وندرسها في المدارس حتى نعض عليها بالنواجذ ولا نكلف أنفسنا عناء مراجعة أو تذوق سواها من قصائد الشاعر. والا فان لصفي قصائد بل خرائد تفوق النونية، كانت وما تزال من ضحايا اهمال القراء.
والغريب حقا ان ينظر الأستاذ مارون إلى صفي الدين الحلي وابن نباتة المصري نظرة الشيخ إلى تلميذيه فيقول عنهما: وإذا سألتني أيهما أسبق، أ صفي الدين أم ابن نباتة، قلت لك كلاهما مقصر، ولكن الحلي يسبق صاحبه بضع خطوات... والإنصاف يقتضي أن يقول إن صفي الدين أوسع أفقا من ابن نباتة واقدر على النظم وأوسع إحاطة باللغة وأكثر