يستشيره فقال الأحنف: إنهم جاءوك بعائشة للطلب بدم عثمان، وهم الذين ألبوا على عثمان الناس وسفكوا دمه، وأراهم والله لا يزايلوننا حتى يلقوا العداوة بيننا ويسفكوا دماءنا، وأظنهم والله سيركبون منك خاصة ما لا قبل لك به إن لم تتأهب لهم بالنهوض إليهم فيمن معك من أهل البصرة فإنك اليوم الوالي عليهم وأنت فيهم مطاع فسر إليهم بالناس وبادرهم قبل أن يكونوا معك في دار واحدة فتكون الناس لهم أطوع منهم لك.
فقال عثمان بن حنيف: الرأي ما رأيت، لكنني أكره الشر وان أبدأهم به وأرجو العافية والسلامة إلى أن يأتيني كتاب أمير المؤمنين ورأيه فاعمل به.
ثم أتاه بعد الأحنف حكيم بن جبلة العبدي، فاقرأه كتاب طلحة والزبير فقال له مثل قول الأحنف، وأجابه عثمان بمثل جوابه للأحنف.
فقال له حكيم: فائذن لي حتى أسير إليهم بالناس، فان دخلوا في طاعة أمير المؤمنين وإلا نابذتهم على سواء، فقال له عثمان: لو كان ذلك رأيي لسرت إليهم بنفسي، فقال حكيم: أما والله إن دخلوا عليك هذا المصر لينقلن قلوب كثير من الناس إليهم وليزيلنك عن مجلسك هذا، وأنت أعلم. فابى عليه عثمان.
علي يكتب إلى ابن حنيف وكتب علي إلى عثمان لما بلغه مشارفة القوم البصرة: من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عثمان بن حنيف.
أما بعد فان البغاة عاهدوا الله ثم نكثوا وتوجهوا إلى مصرك وساقهم الشيطان لطلب ما لا يرضى الله به، والله أشد بأسا وأشد تنكيلا، فإذا قدموا عليك فادعهم إلى الطاعة والرجوع إلى الوفاء بالعهد والميثاق الذي فارقونا عليه، فان أجابوا فاحسن جوارهم ما داموا عندك، وإن أبوا إلا التمسك بحبل النكث والخلاف فناجزهم القتال حتى يحكم الله بينك وبينهم وهو خير الحاكمين، وكتبت كتابي إليك هذا من الربذة وانا معجل السير إليك إن شاء الله.
عثمان يفاوضهم فلما وصل كتاب علي ع إلى عثمان ارسل إلى أبي الأسود الدئلي وعمران بن الحصين الخزاعي فأمرهما أن يسيرا حتى يأتياه بعلم القوم، وما الذي أقدمهم فانطلقا حتى أتيا حفير أبي موسى وبه معسكر القوم، فدخلا على عائشة فوعظاها وأذكراها وناشداها الله.
فقالت لهما ألقيا طلحة والزبير، فلقيا الزبير فكلماه، فقال لهما إنا جئنا للطلب بدم عثمان وندعو الناس إلى أن يردوا أمر الخلافة شورى ليختار الناس لأنفسهم. فقالا له: إن عثمان لم يقتل بالبصرة ليطلب دمه فيها، وأنت تعلم قتلة عثمان من هم وأين هم، وإنك وصاحبك وعائشة كنتم أشد الناس عليه وأعظمهم إغراء بدمه فأقيدوا من أنفسكم. وأما إعادة أمر الخلافة شورى، فكيف وقد بايعتم عليا طائعين غير مكرهين، وأنت يا أبا عبد الله، لم يبعد العهد بقيامك دون هذا الرجل يوم مات رسول الله ص وأنت آخذ قائم سيفك تقول: ما أحد أحق بالخلافة منه ولا أولى بها منه وامتنعت من بيعة أبي بكر. فأين ذلك الفعل من هذا القول؟!
فقال لهما: إذهبا فالقيا طلحة، فقاما إلى طلحة فوجداه خشن الملمس شديد العريكة قوي العزم في إثارة الفتنة وإضرام نار الحرب.
فانصرفا إلى عثمان بن حنيف فأخبراه، وقال له أبو الأسود:
يا ابن حنيف قد أتيت فانفر وأبرز لها مستلئما وشمر فقال ابن حنيف أي والحرمين لأفعلن، وأمر مناديه فنادى في الناس: السلاح، السلاح، فاجتمعوا إليه وقال أبو الأسود:
أتينا الزبير فدانى الكلام * وطلحة كالنجم أو أبعد وأحسن قوليهما فادح * يضيق به الخطب مستنكد وقد أوعدونا بجهد الوعيد * فأهون علينا بما أوعدوا فقلنا ركضتم ولم ترحلوا * وأصدرتم قبل أن توردوا فان تلقحوا الحرب بين الرجال * فملفحها جده الأنكد وإن عليا لكم مصحر * إلا أنه الأسد الأسود أما أنه ثالث العابدين * بمكة والله لا يعبد فرخوا الخناق ولا تعجلوا * فان غدا لكم موعد الناكثون في البصرة وأقبل القوم فلما انتهوا إلى المربد قام رجل من بني جشم فقال: أنا فلان الجشمي وقد أتاكم هؤلاء القوم، فان كانوا أتوكم من المكان الذي يا من فيه الطير والوحش وإن كانوا إنما أتوكم بطلب دم عثمان، فغيرنا ولي قتله فأطيعوني أيها الناس وردوهم من حيث أقبلوا فإنكم إن لم تفعلوا لم تسلموا من الحرب الضروس والفتنة الصماء التي لا تبقي ولا تذر.
فحصبه ناس من أهل البصرة فامسك. واجتمع أهل البصرة إلى المربد حتى ملأوه مشاة وركبانا. فقام طلحة فأشار إلى الناس بالسكون ليخطب فسكتوا بعد جهد. فتكلم بكلام برر فيه قدومهم وأعلن أنهم قدموا للطلب بدم عثمان بن عفان واستنجد بالناس على هذا الأمر، وأعلن أنهم بعد الظفر يتركون أمر الخلافة شورى. وتبعه الزبير فتكلم بمثل كلامه.
فقام إليهما ناس من أهل البصرة، فقالوا لهما: أ لم تبايعا عليا فيمن بايعه، ففيم بايعتما ثم نكثتما؟! فادعيا أنهما بايعا مكرهين. فقال ناس:
قد صدقا وأحسنا القول، وقال ناس ما صدقا ولا أصابا في القول حتى ارتفعت الأصوات. ثم أن عائشة تكلمت بما لا يخرج عن مضمون كلام طلحة والزبير.
أهل البصرة يردون فماج الناس واختلطوا فمن قائل أن القول ما قالت، ومن قائل يقول: وما هي وهذا الأمر، وارتفعت الأصوات حتى تضاربوا بالنعال وتراموا بالحصا. ثم أن الناس تمايزوا فصاروا فريقين: فريق مع عثمان بن حنيف وفريق مع عائشة وأصحابها.