إمتاع الأسماع - المقريزي - ج ٩ - الصفحة ٣٣١
قالت: لا تحدثن بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا قال أنس: [والله لو] حدثت به أحدا لحدثتك يا ثابت (1).
فصل في ذكر من كان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم إعلم أن الوحي (2) على قسمين: متلو، وهو كتاب الله تعالى الذي (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه (3))، (نزل به الروح

(١) (المرجع السابق) حديث رقم (١٤٥ - ٢٤٨٢) وسنده: حدثنا أبو بكر بن نافع، حدثنا بهز حدثنا حماد، أخبرنا ثابت عن أنس.
(٢) الوحي: ما يقع به الإشارة القائمة مقام العبارة من غير عبارة، فإن العبارة يجوز منها إلى المعنى المقصود بها، ولذا سميت عبارة، بخلاف الإشارة التي هي الوحي فإنها ذات المشار إليه والوحي هو المفهوم الأول، والافهام الأول، ولا تعجب من أن يكون عين الفهم عين الأفهام عين المفهوم منه، فإن لم تحصل لك هذه النكتة فلست بصاحب وحي، ألا ترى أن الوحي هو السرعة، ولا سرعة أسرع مما ذكرنا. فهذا الضرب من الكلام يسمى وحيا، ولما كان بهذه المثابة وأنه تجل ذاتي، لهذا ورد في الحديث الذي رواه ابن حبان في صحيحه وغيره: أن الله إذا تكلم بالوحي سمع أهل السماء صلصلة كجر السلسلة على الصفاة فيصعقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل، فإذا جاءهم فزع عن قلوبهم فيقولون يا جبريل ماذا قال ربك فيقول الحق، فينادون الحق، وهو العلي الكبير، وما سألت فالوحي: ما يسرع أثره من كلام الحق في نفس السامع، ولا يعرف هذا إلا العارفون بالشؤون الإلهية فإنها عين الوحي الإلهي في العالم وهم لا يشعرون. فافهم.
وقد يكون الوحي إسراع الروح الإلهي بالإيمان بما يقع به الأخبار والمفطور عليه كل شئ مما لا كسب فيه من الوحي أيضا، كالمولود يلتقم ثدي أمه، ذلك من أثر الوحي الإلهي إليه كما قال: (ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون). [الواقعة: ٨٥]، (ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون) [البقرة: ١٥٤] وقال تعالى: ( وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون) [النحل:
٦٨] فلولا أنها فهمت من الله وحيه لما صدر منها ما صدر، ولهذا لا تصور معه المخالفة إذا كان الكلام وحيا، فإن سلطانه أقوى من أن يقاوم، (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم) [القصص: ٧]، ولذا فعلت ولم تخالف، والحالة تؤذن بالهلاك، ولم تخالف ولا ترددت، ولا حكمت عليها البشرية بأن هذا من أخطر الأشياء، فدل على أن الوحي أقوى سلطانا في نفس الموحى إليه من طبعه الذي هو عين نفسه، قال تعالى: (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد)، [ق: ١٦]، حبل الوريد من ذاته، فإذا زعمت يا ولي بأن الله أوحى إليك فانظر نفسك في التردد والمخالفة، فإن وجدت لذلك أثر تدبير أو تفصيل أو تفكر فلست بصاحب وحي، فإن حكم عليك وأعماك وأصمك، وحال بينك وبين فكرك وتدبيرك، وأمضى حكمه فيك، فذلك هو الوحي، وأنت عند ذلك صاحب وحي، وعلمت عند ذلك أن رفعتك وعلو مرتبتك أن تلحق بمن يقول إنه دونك من حيوان أو نبات أو جماد، فإن كل شئ مفطور على العلم بالله إلا مجموع الإنس والجان، فإنه من حيث تفضيله منطو على العلم بالله كسائر ما سواهما من المخلوقات من ملك وحيوان ونبات وجماد، فما من شئ فيه من: شعر، وجلد، ولحم، وعصب، ودم، وروح، ونفس، وظفر، وناب إلا وهو عالم بالله، حتى ينظر ويفكر ويرجع إلى نفسه فيعلم أن له صانعا صنعه، وخالقا خلقه، فلو أسمعه الله نطق جلده، أو يده، أو لسانه، أو عينه، لسمعه ناطقا بمعرفته بربه، مسبحا لجلاله، مقدسا لجماله (يوم تشهد عليهم ألسنتهم)، [النور: ٢٤]. (اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم)، [يس: ٦٥]، (وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا). فالانسان من حيث تفصيله عالم بالله، ومن حيث جملته جاهل بالله حتى يتعلم، أي يعلم بما في تفصيله، فهو العالم الجاهل (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين). [السجدة: ١٧].
قال أبو القاسم الأصفهاني: الوحي: الإشارة سريعة، ولتضمن السرعة قيل: أمر وحي، وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز أو التعريض وقد يكون بصوت مجرد عن التركيب، وبإشارة ببعض الجوارح وبالكتابة، وقد حمل على كل ذلك قوله تعالى (فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا) [مريم: ١١]. فقد قيل: رمز، وقيل: أشار، وقيل: كتب. وحمل على هذه الوجوه أيضا قوله تعالى: (يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا)، [الأنعام: ١١٢]، وقوله: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم)، [الأنعام: ١٢١]، فذلك بالوسواس المشار إليه بقوله: (من شر الوسواس الخناس)، [الناس: ٤]، ويقوله صلى الله عليه وسلم: " إن الشيطان لمة " الحديث.
ويقال للكلمة الإلهية التي تلقى [إلى] أنبيائه وأوليائه وحي، وذلك أضرب حسب ما دل عليه قوله تعالى: (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء)، [الشورى: ٥١]، وذلك إما برسول مشاهد ترى ذاته ويسمع كلامه كتبليغ جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم في صورة معينة، وإما بسماع كلام من غير معاينة كسماع موسى عليه السلام كلام الله تعالى، وإما بإلقاء في الروع كما ذكر صلى الله عليه وسلم: " إن روح القدس نفث في روعي " وإما بإلهام نحو قوله تعالى: (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه)، [القصص: ٧]، وإما بتسخير نحو قوله تعالى: (وأوحى ربك إلى النحل) [النحل: ٦٨]، وإما بمنام كما قاله صلى الله عليه وسلم: " لم يبق من النبوة إلا المبشرات ". [أخرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة عن ابن عباس]. فالإلهام والتسخير والمنام دل عليه قوله تعالى: (إلا وحيا)، [الشورى: ٥١]، وسماع الكلام من غير معانيه دل عليه: (من وراء حجاب) وتبليغ جبريل عليه السلام في صورة معنية دل عليه: (أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء) وقوله تعالى:
(ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شئ)، [الأنعام: ٩٣]، فذلك ذم لمن يدعي شيئا من أنواع ما ذكرنا من الوحي، أي نوع ادعاه من غير أن حصل له.
وقوله: (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه)، [الأنبياء: ٢٥]، فهذا الوحي هو عام في جميع أنواعه، وذلك أن معرفة وحدانية الله تعالى، ومعرفة وجوب عبادته ليست مقصورة على الوحي المختص بأولى العزم من الرسل بل ذلك يعرف بالعقل والإلهام، كما يعرف بالسمع، فإذا القصد من الآية تنبيه أنه من المحال أن يكون رسول لا يعرف وحدانية الله تعالى ووجوب عبادته.
وقوله: (وإذا أوحيت إلى الحواريين)، [المائدة: ١١١]، فذلك وحي بوساطة عيسى عليه السلام. وقوله: (وأوحينا إليهم فعل الخيرات)، [الأنبياء: ٧٣] فذلك وحي إلى الأمم بوساطة الأنبياء عليهم السلام. ومن الوحي المختص بالنبي صلى الله عليه وسلم: (اتبع ما أوحي إليك من ربك)، [الأنعام: ١٠٦]، وقوله: (وأوحينا إلى موسى وأخيه)، [يونس: ٨٧]، فوحيه إلى موسى بوساطة جبريل، وإلى هارون بوساطة موسى عليه السلام وقوله: (إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم)، [الأنفال: ١٢] فذلك وحي إليهم بوساطة اللوح والقلم فيما قبل.
وقوله: (وأوحي في كل سماء أمرها)، [فصلت: ١٢]، فإن كان الوحي إلى أهل السماء فقط فالموحى إليه محذوف ذكره كأنه قال: أوحي إلى الملائكة، لأن أهل السماء هم الملائكة ويكون كقوله: (إذ يوحي ربك إلى الملائكة)، وإن كان الموحى إليه هي السماوات فذلك تسخير عند من يجعل السماء غير حي، ونطق عند من يجعله حيا. وقوله:
(بأن ربك أوحى لها)، [الزلزلة: ٥] قريب من الأول. وقوله: (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه)، [طه: ١١٤] فحث له على التثيت في السماع، وعلى ترك الاستعجال في تلقيه وتلقنه. (البصائر): ٥ / ١٧٧ - ١٨٢.
(٣) فصلت: ٤٢.
(٣٣١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 326 327 328 329 330 331 334 335 336 337 338 ... » »»
الفهرست
الرقم العنوان الصفحة
1 فصل في ذكر عمرات رسول الله صلى الله عليه وسلم التي اعتمرها بعد هجرته 3
2 عمرة القضاء 17
3 عمرة الجعرانة 22
4 فصل في ذكر حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة 25
5 فصل في ذكر من حدث عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم 38
6 فأما ما أخبر به صلى الله عليه وسلم عن رب العزة جلت قدرته 38
7 وأما الأحاديث الإلهية 46
8 وأما الحكمة وهي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم 48
9 وأما مجيء الجبال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم 51
10 وأما إنزال الملك يبشره بالفاتحة وبالآيتين من سورة البقرة 52
11 وأما الملك الذي نزل بتصويب الحباب 52
12 وأما اجتماعه بالأنبياء ورؤيتهم في ليله الإسراء 53
13 وأما حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إبراهيم عليه السلام 53
14 وأما حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تميم الدارس 62
15 وأما حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قس بن ساعدة 68
16 وأما حديثه صلى الله عليه وسلم عن أبي كبشة 70
17 فصل في ذكر من حديث وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه 70
18 إسلام الجن وإنذارهم 70
19 وأما الصحابة رضوان الله عليهم 81
20 أما المهاجرون 85
21 ذكر هجرة الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة 87
22 وأما السابقون الأولون 88
23 وأما الذين أسلموا إلى أن خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من دار الأرقم 91
24 وأما المستضعفون الذين عذبوا في الله 105
25 وأما المهاجرون إلى الحبشة 115
26 وأما من أسلم قبل الفتح 117
27 وأما الذين شهدوا بدرا وبيعة الرضوان 121
28 وأما رفقاؤه النجباء 128
29 وأما أهل الفتيا من أصحابه صلى الله عليه وسلم 130
30 فصل في ذكر أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم 169
31 فصل في ذكر نزول الأوس والخزرج بيثرب 171
32 فصل في ذكر بطون الأوس والخزرج 175
33 فصل في ذكر ما أكرم الله تعالى به الأوس والخزرج 178
34 أول من لقيه من الأوس سويد بن الصامت 184
35 ثم لقى صلى الله عليه وسلم بعد لقاء سويد بن الصامت فتية من بني عبد الأشهل 185
36 وكان من خبر يوم بعاث 187
37 فصل في ذكر خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة وهجرته إلى المدينة 193
38 فصل في ذكر مواساة الأنصار المهاجرين بأموالهم لما قدموا عليهم المدينة 204
39 فصل في ذكر من بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم الأنصار وغيرهم القرآن ويفقهم في الدين 206
40 عقوبة من سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم 209
41 فصل في التنبيه على شرف مقام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم 221
42 وأما وصاياه صلى الله عليه وسلم 222
43 فصل في ذكر أمراء سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم 223
44 فأما اعتذاره عن التخلف 223
45 فصل في ذكر من أستخلفه رسول اله صلى الله عليه وسلم على المدينة في غيبته عنها في غزو، أو حج، أو عمرة 226
46 فصل في ذكر من استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم في جيوشه عند عودته صلى الله عليه وسلم 228
47 فصل في نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرعب 237
48 فصل في ذكر شورة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحرب وذكر من رجع إلى رأيه 240
49 فصل في ذكر ما كان يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا 267
50 فصل في ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد غزوة ورى بغيرها 268
51 فصل في وقت إغارة رسول الله صلى الله عليه وسلم 269
52 فصل في ذكر الوقت الذي يقاتل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم 271
53 فصل في ذكر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على المشركين في محاربتهم 272
54 فصل في ذكر شعار رسول الله صلى الله عليه وسلم في حروبه 275
55 فصل في ذكر المغازي التي قاتل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم 277
56 فصل في ذكر ما كان للنبي صلى الله عليه وسلم من الغنيمة 279
57 فصل في ذكر من جعله النبي صلى الله عليه وسلم على مغانم حروبه 290
58 فصل في ذكر من كان على ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم 301
59 فصل في ذكر من حدا برسول الله صلى الله عليه وسلم في أسفاره 302
60 فصل في ذكر وزير رسول الله صلى الله عليه وسلم 318
61 فصل في ذكر صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم 322
62 فصل في ذكر خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يختم به 335
63 فصل في ذكر ما كان يختم به رسول الله صلى الله عليه وسلم كتبه 337
64 فصل في ذكر صاحب خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم 338
65 فصل في ذكر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابة الجيش وقسمة العطاء فيهم وعرضهم وعرفائهم 339
66 فصل في ذكر ما أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأرضية ونحوه 358
67 فصل في ذكر أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزية والخراج 365
68 فصل في ذكر عمال رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجزية 375
69 فصل في ذكر عمال رسول الله صلى الله عليه وسلم على الزكاة 376
70 فصل في ذكر الصدقة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم 380
71 فصل في ذكر الخارص على عهد رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم 381
72 فصل في ذكر من ولى السوق في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعرف هذه الولاية اليوم بالحسبة، ومتوليها له المحتسب 386