إمتاع الأسماع - المقريزي - ج ٣ - الصفحة ١٢٧
ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم. هذا الحديث انفرد به مسلم (1)، ولم يخرجه البخاري، وأخرجه أبو داود من طريق ابن بريدة بمثله أو

(١) أخرجه مسلم في أول كتاب الإيمان، والإسلام والإحسان، ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله سبحانه وتعالى، وبيان الدليل على التبري ممن لا يؤمن بالقدر، وإغلاظ القول في حقه، حديث رقم (١).
قوله: " لا يرى عليه أثر السفر " ضبطناه الياء المثناة من تحت، المضمومة، وكذلك ضبطناه في الجمع بين الصحيحين وغيره، وضبطه الحافظ أبو حازم العدوي هنا: " نرى " بالنون المفتوحة، وكذا هو مسند أبي يعلى الموصلي، وكلاهما صحيح.
قوله: " ووضع كفيه على فخذيه "، معناه أن الرجل الداخل وضع كفيه على فخذي نفسه، وجلس على هيئة المتعلم. والله تعالى أعلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك "، هذا من جوامع الكلم التي أوتيها صلى الله عليه وسلم، لأنا لو قدرنا أن أحدنا قام في عبادة وهو يعاين ربه سبحانه وتعالى، لم يترك شيئا مما يقدر عليه من الخضوع والخشوع، وحسن السمت واجتماعه بظاهره وباطنه، على الاعتناء بتتميمها على أحسن وجوهها، إلا أتي به، فقال صلى الله عليه وسلم: أعبد الله في جميع أحوالك كعبادتك في حال العيان، فإن التميم المذكور في الحال العيان، إنما كان لعلم العبد باطلاع الله سبحانه وتعالى عليه، فلا يقدم العبد على تقصير في هذه الحال للاطلاع عليه، وهذا المعنى موجود مع عدم رؤية العبد، فينبغي أن يعمل بمقتضاه، فمقصود الكلام الحث على الإخلاص في العبادة، ومراقبة العبد ربه تبارك وتعالى، في إتمام الخشوع والخضوع، وغير ذلك، وقد ندب أهل الحقائق إلى مجالسة الصالحين، ليكون ذلك مانعا من تلبسه بشئ من النقائص احتراما لهم، واستحياءا منهم، فكيف بمن لا يزال الله تعالى مطلعا عليه في سره وعلانيته.
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: وهذا الحديث قد اشتمل على شرح جميع وظائف العبادات الظاهرة والباطنة، من عقود الإيمان، وأعمال الجوارح، والإخلاص السرائر، والتحفظ من آفات الأعمال، حتى أن علوم الشريعة كلها راجعة إليه، ومتشعبة منه.
قال: وعلى هذا الحديث وأقسامه الثلاثة، ألفنا كتاب الذي سميناه: [المقاصد الحسان فيما يلزم الإنسان]، إذ لا يشذ شئ من الواجبات، والسنن، والرغائب، والمحظورات، والمكروهات، عن أقسامه الثلاثة. والله أعلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: " ما المسؤول عنها بأعلم من السائل "، فيه أنه ينبغي للعالم والمفتي وغيرهما، إذ سئل عما لا يعلم أن يقول: لا أعلم، وأن ذلك لا ينقصه، بل يستدل به على ورعه، وتقواه، ووفور علمه.
قوله: " أن تلد الأمة ربتها "، وفي الرواية الأخرى " ربها " على التذكير، وفي الأخرى " بعلها " وقال: يعني السراري، ومعنى ربها وربتها، سيدها ومالكها، وسيدتها ومالكتها، قال الأكثرون من العلماء: هو إخبار عن كثرة السراري وأولادهم، فإن ولدها من سيدها بمنزلة سيدها، لأن مال الإنسان صائر إلى ولده، وقد يتصرف فيه في الحال تصرف المالكين، إما بتصريح أبيه له بالإذن، وإما يعلمه بقرينة الحال، أو عرف الاستعمال.
وقيل: معناه أن الإماء يلدن الملوك، فتكون أمه من جملة رعيته، وهو سيدها وسيد غيرها من رعيته، وهذا قول إبراهيم الحربي، وقيل: معناه أن تفسد أحوال الناس فيكثر بيع أمهات الأولاد في آخر الزمان، فيكثر تردادها في أيدي المشترين، حتى يشتريها ابنها ولا يدري، ويحتمل على هذا القول أن لا يختص هذا بأمهات الأولاد، فإنه متصور في غيرهن، فإن الأمة تلد ولدا حرا من غير سيدها بشبهة، أو ولدا رقيقا بنكاح أو زنا، ثم تباع الأمة في الصورتين بيعا صحيحا، وتدور في الأيدي حتى يشتريها، ولدها، وهذا أكثر وأعم من تقديره في أمهات الأولاد.
وأما بعلها، فالصحيح في معناه أن البعل هو المالك أو السيد، فيكون بمعنى ربها على ما ذكرناه. قال أهل اللغة: بعل الشئ ربه ومالكه. وقال ابن عباس رضي الله عنهما والمفسرون في قوله سبحانه وتعالى:
(أتدعون بعلا): أي ربا، وقيل: المراد بالبعل في الحديث، الزوج، ومعناه نحو ما تقدم، أنه يكثر بيع السراري حتى يتزوج الإنسان أمه وهو لا يدري، وهذا أيضا معنى صحيح، إلا أن الأول أظهر، لأنه إذا أمكن حمل الروايتين في القضية الواحدة على معنى كان أولى، والله أعلم.
واعلم أن هذا الحديث ليس فيه دليل على إباحة بيع أمهات الأولاد، ولا منع بيعهن، وقد استدل إمامان من كبار العلماء به على ذلك، فاستدل أحدهما على الإباحة، والآخر على المنع، وذلك عجب منهما، وقد أنكر عليهما، فإنه ليس كل ما أخبر صلى الله عليه وسلم بكونه من علامات الساعة يكون محرما أو مذموما، فإن تطاول الرعاء في البنيان، وفشو المال، وكون خمسين امرأة لهن قيم واحد ليس بحرام بلا شك، وأنما هذه علامات، والعلامة لا يشترط فيها شئ من ذلك، بل تكون بالخبر والشر، والمباح والمحرم، والواجب وغيره، والله أعلم.
قول صلى الله عليه وسلم: " وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البيان "، أما العالة فهم الفقراء والعائل الفقير، والعلية الفقر، وعال الرجل يعيل عيلة أي افتقر، والرعاء بكسر الراء وبالمد، ويقال فيهم الرعاة بضم الراء وزيادة الهاء بلا مد، ومعناه أن أهل البادية وأشباههم من أهل الحاجة والقافة، تبسط لهم الدنيا، حتى يتباهون في البنيان. والله أعلم.
قوله: " فلبث مليا " هكذا ضبطناه، لبث آخره ثاء مثلثة من غير تاء، وفي كثير من الأصول المحققة " لبثت " بزيادة تاء المتكلم، وكلاهما صحيح، وأما " مليا " بتشديد الياء، فمعناه وقتا طويلا، وفي روية أبي داود والترمذي، أنه قال ذلك بعد ثلاث، وفي شرح السنة للبغوي بعد الثالثة، وظاهر هذا أنه بعد ثلاث ليال، وفي ظاهر هذا مخالفة لقوله في حديث أبي هريرة بعد هذا بم أدبر الرجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ردوا على الرجل، فأخذوه ليردوه فلم يرو شيئا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " هذا جبريل " فيحمل الجمع بينهما أن عمر رضي الله عنه لم يحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم لهم في الحال، بل كان قد قام من المجلس، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم الحاضرين في الحال، وأخبر عمر رضي الله عنه بعد الثالث، إذا لم يكن حاضرا وقت إخبار الباقين، والله أعلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: " هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم "، فيه أن الإيمان والإسلام والإحسان تسمى كلها دينا. واعلم أن هذا الحديث يجمع أنواعا من العلوم والمعارف، والآداب واللطائف، بل هو الأصل الإسلام. من فوائد هذا الحديث:
[1] أنه ينبغي لمن حضر مجلس العالم إذا علم بأهل المجلس حاجة إلى مسألة لا يسألون عنها، أن يسأل هو عنها ليحصل الجواب للجميع.
[2] أنه ينبغي للعالم أن يرفق بالسائل ويدنيه منه، ليتمكن من سؤاله، غير هائب منه ولا منقبض.
[3] أنه ينبغي للسائل أن يرفق في سؤاله، (المرجع السابق): 1 / 269 - 275.
(١٢٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 122 123 124 125 126 127 129 130 131 132 133 ... » »»
الفهرست
الرقم العنوان الصفحة
1 ذكر مجيء الملك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم برسالات ربه تعالى 3
2 ذكر الاختلاف في أول سورة من القرآن أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم 3
3 ذكر الاختلاف في شق صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم، متى كان وأين وقع؟ 32
4 ذكر مجيء جبرئيل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الصورة التي خلقه الله عليها 39
5 ذكر كيفية إلقاء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم 45
6 ذكر تعليم جبرئيل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الوضوء والصلاة 53
7 وأما إقامة جبريل عليه السلام أوقات الصلاة للنبي صلى الله عليه وسلم وأنه أمه فيها 60
8 ذكر الجهة التي كان صلى الله عليه وسلم يستقبلها في صلاته 81
9 ذكر من قرن برسول الله صلى الله عليه وسلم من الملائكة 94
10 فصل في ذكر الفضائل التي خص الله تعالى بها نبيه ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم وشرفه بها على جميع الأنبياء 95
11 فأما أنه صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين 96
12 وأما مخاطبة الله له بالنبوة والرسالة، ومخاطبة من عداه من الأنبياء باسمه 105
13 وأما دفع الله عن الرسول صلى الله عليه وسلم ما قرفه به المكذبون، ونهى الله تعالى العباد عن مخاطبته باسمه 108
14 وأما دفع الله تعالى عن النبي صلى الله عليه وسلم ما قرفه المكذبون له 111
15 وأما مغفرة ذنبه من غير ذكره تعالى له خطأ ولا زلة 112
16 وأما أخذ الله تعالى الميثاق على جميع الأنبياء أن يؤمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وينصروه إن أدركوه 116
17 وأما عموم رسالته إلى الناس جميعا وفرض الإيمان به على الكافة، وأنه لا ينجو أحد من النار حتى يؤمن به صلى الله عليه وسلم 122
18 وأما فرض طاعته، فإذا وجب الإيمان به وتصديقه بما جاء به وجبت طاعته لأن ذلك مما أتى به 132
19 وأما وجوب اتباعه وامتثال سنته والاقتداء بهديه صلى الله عليه وسلم 145
20 وأما أمر الكافة بالتأسي به قولا وفعلا 154
21 وأما اقتران اسم النبي صلى الله عليه وسلم باسم الله تعالى 167
22 وأما تقدم نبوته صلى الله عليه وسلم قبل تمام خلق آدم عليه السلام 169
23 ذكر التنويه بذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم من زمن آدم عليه السلام 187
24 وأما شرف أصله، وتكريم حسبه، وطيب مولده صلى الله عليه وسلم 204
25 وأما أن أسماءه خير الأسماء 216
26 وأما قسم الله تعالى بحياته صلى الله عليه وسلم 221
27 وأما تفرده بالسيادة يوم القيامة على جميع الأنبياء والرسل وأن آدم ومن دونه تحت لوائه صلى الله عليه وسلم 224
28 فصل في ذكر المفاضلة بين المصطفى وبين إبراهيم الخليل صلوات الله عليهما وسلامه 241
29 وأما اختصاصه صلى الله عليه وسلم بالشفاعة العظمى يوم الفزع الأكبر 263
30 ذكر المقام المحمود الذي وعد الله تعالى به الرسول صلى الله عليه وسلم 288
31 تنبيه وإرشاد 292
32 إيضاح وتبيان 295
33 وأما حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الكوثر 297
34 وأما كثرة أتباعه صلى الله عليه وسلم 309
35 وأما الخمس التي أعطيها صلى الله عليه وسلم 311
36 وأما أنه بعث بجوامع الكلم وأوتي مفاتيح خزان الأرض 315
37 وأما تأييده بقتال الملائكة معه 319
38 وأما أنه خاتم الأنبياء 334
39 وأما أن أمته خير الأمم 338
40 وأما ذكره صلى الله عليه وسلم في كتب الأنبياء وصحفهم وإخبار العلماء بظهوره حتى كانت الأمم تنتظر بعثته صلى الله عليه وسلم 345
41 ثم جاءني محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم 378
42 وأوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم 379
43 ومن إعلامه في التوراة 385
44 ومن إعلامه في التوراة أيضا 386
45 ومن ذكر شعيا له 387
46 ومن ذكر شعيا له 388
47 وفي حكاية يوحنا عن المسيح 390
48 وفي إنجيل متى 391
49 وذكر شعيا طريق مكة فقال: 394
50 وأما سماع الأخبار بنبوته من الجن وأجواف الأصنام ومن الكهان 396