العثمانية - الجاحظ - الصفحة ٣٢٩
وأكلب. ولو قتل أبو بكر في بعض تلك المعارك هل كان يؤثر قتله في الاسلام ضعفا أو يحدث فيه وهنا، أو يخاف على الملة لو قتل أبو بكر في بعض تلك الحروب أن تندرس وتعفى آثارها وتنطمس منارها، ليقول الجاحظ إن أبا بكر كان حكمه حكم رسول الله صلى الله عليه وآله في مجانبة الحروب واعتزالها. نعوذ بالله من الخذلان!
وقد علم العقلاء كلهم ممن له بالسير معرفة، وبالآثار والاخبار ممارسة، حال حروب رسول الله صلى الله عليه وآله كيف كانت، وحاله عليه السلام فيها كيف كانت، ووقوفه حيث وقف، وحرب حيث حارب، وجلوسه في العريش يوم جلس، وأن وقوفه صلى الله عليه وآله وقوف رياسة وتدبير، ووقوف ظهر وسند، يتعرف أمور أصحابه ويحرس صغيرهم وكبيرهم بوقوفه من ورائهم، وتخلفه عن التقدم في أوائلهم، ولأنهم متى علموا أنه في أخراهم اطمأنت قلوبهم. ولم يتعلق بأمره نفوسهم فيشتغلوا بالاهتمام به عن عدوهم، ولا يكون لهم فيئة يلجئون إليها، وظهر يرجعون إليه، ويعلمون أنه متى كان خلفهم تفقد أمورهم وعلم مواقفهم، وآوى كل إنسان مكانه في الحماية والنكاية، وعند المنازلة في الكر والحملة، فكان وقوفه حيث وقف أصلح لأمرهم، وأحمى وأحرس لبيضتهم، ولأنه المطلوب من بينهم، إذ هو مدبر أمورهم ووالى جماعتهم. ألا ترون أن موقف صاحب اللواء موقف شريف، وأن صلاح الحرب في وقوفه، وأن فضيلته في ترك التقدم في أكثر حالاته. فللرئيس حالات:
الأولى حالة يتخلف ويقف آخرا ليكون سندا وقوة، وردءا وعدة، وليتولى تدبير الحرب. ويعرف مواضع الخلل.
والحالة الثانية يتقدم فيها في وسط الصف ليقوى الضعيف ويشجع الناكص (1).
وحالة ثالثة وهى إذا اصطدم الفيلقان، وتكافح السيفان، اعتمد ما يقتضيه الحال من الوقوف حيث يستصلح، أو من مباشرة الحر بنفسه، فإنها آخر المنازل، وفيها تظهر شجاعة الشجاع النجد، وفشالة الجبان المموه.

(1) ط: " الناكس " بالسين.
(٣٢٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 324 325 326 327 328 329 330 331 332 333 334 ... » »»