العثمانية - الجاحظ - الصفحة ١٠٤
على الاخلاص، وثلج صدره بالايمان، ولكن عزمه كان منقوصا عن التمام، من غير أن يكون ذلك عصيانا ولا خلافا. ويدلك على ذلك قول الله:
" إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان ". ولذلك قال النبي صلى الله عليه لعمار: " إن عادوا فعد " يريد بن التوسعة والرخصة والاطلاق.
وليس على الامر والترغيب.
وكما بلغك عن الرجلين الواردين على مسيلمة. حين قال لأحدهما: أتعلم أنى رسول الله؟ قال: نعم. قال: أفتعلم أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم.
قال: فأمر به فقتل. وقال للآخر: أتعلم أنى رسول الله؟ قال: نعم. قال:
فتعلم أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم. فأمر بتخلية سبيله. فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه قال: أما الأول فمضى على عزمه ويقينه فهنيئا له، وأما الثاني فأخذ برخصة الله فلا تبعة عليه.
فعلى هذا المثال كان تقصير القوم، لا على وجه الخلاف والمعصية.
وذلك أن أبا بكر أقام بمكة ما أقام النبي صلى الله عليه عليه وسلم، وهاجر الناس الأول فالأول، فبعض أتى المدينة، وبعض أتى الحبشة، حين اشتد عليهم البلاء وطال الذل وقل الناصر، وقويت الضغائن، فكان النفر بعد النفر، والرجل بعد الرجل، يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة فيأذن له. وأقام أبو بكر وحيدا لا أنيس له، وذليلا لا ناصر له، وخائفا لا أمان معه، في كل يوم يزدادون عليه قوة ويزداد عنهم ضعفا فإذا بلح (1) وبلغ المجهود، ولم يبق في قواه فضل يستعين به على الصبر، استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في المضي إلى إخوانه واللحاق بهم،

(1) الكلمة مهملة في الأصل، وبلح تبليحا: أعيا.
(١٠٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 ... » »»