الفصول الغروية في الأصول الفقهية - الشيخ محمد حسين الحائري - الصفحة ٣٤٠
التكليف ما يصلح لمعارضة جهات الفعل فيدرك موافقة حكم الشارع لما أدركه من الجهات ولنا على المقام الثاني أن احتمال كون التكليف أو حسنه مشروطا ببلوغه بطريق سمعي مع إمكان دعوى كونه مقطوع العدم في بعض الموارد مما لا يعتد به العقل في إهمال ما أدركه من الجهات القطعية لظهور أن الاحتمال لا يعارض اليقين لا سيما إذا كان بعيدا وليس في السمع ما يدل على هذا الاشتراط لما سنبينه من بطلان ما تمسك به الخصم وعدم قيام دليل صالح له سواه ويدل عليه ظاهر قوله تعالى يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث وغير ذلك مما يأتي ومن هنا يتضح أنه لو جهل العقل جهات التكليف وأدرك جهات الفعل حكم في الظاهر بثبوت التكليف عملا بعموم الآيات وما في معناها من الاخبار ولأن قضية جهات الفعل وقوع التكليف على حسبها إن لم يعارضها مانع ولا يكفي احتماله إذ المحتمل لا يصلح في نظر العقل لمعارضة المقطوع به وقريب منه ما لو أدرك العقل بعض جهات الفعل المقتضية لحسنه أو قبحه وشك في وجود جهة فيه تعارض تلك الجهة فإنه يحكم بثبوت التكليف على حسبها ولا يعتد باحتمال الجهة المعارضة إما لأصالة عدمها أو لحكم العقل بقبح الفعل أو الترك والحال هذه حكما واقعيا وإن كان مبناه على الظاهر ولهذا يستحق الذم عليه في حكمه وإن انكشف بعده وجود الجهة المعارضة فيه فإن ارتكاب القبيح الظاهري قبل انكشاف الخلاف قبيح واقعي كالحرام الظاهري أ لا ترى أن من علم بوجود السم في أحد الإناءين فتجري على تناول أحد من غير ضرورة مبيحة أنه يستحق الذم بذلك عقلا وأن يبين بعد ذلك أن الذي تناوله لا سم فيه وحينئذ فيرجع هذا القسم إلى القسم السابق ويتناوله أدلته و من هذا الباب حكم العقل بحرمة قتل الكافر والزاني بذات المحرم و ما أشبه ذلك قبل ورود الشرع وإذا ثبت عندك مما حققناه انتفاء الملازمة الكلية بحسب الواقع بين حكم العقل والشرع فاعلم أن ذلك يتصور إما بالامر بالحرام الفعلي و لو ندبا والنهي عن الواجب الفعلي ولو تنزيها أو ندب واجبه أو كراهة محرمه أو بالعكس أو التكليف بأحد الأحكام الأربعة في مباحه أو إباحة ما لا يبيحه العقل أو إخلاء الواقعة التي حكم العقل فيها بحكم عن جميع الأحكام أما القسمان الأولان فلا ريب في امتناعهما بالقياس إلى الحكم الواقعي ومما يدل عليه قوله تعالى قل إن الله لا يأمر بالفحشاء وقريب من ذلك النهي عن المندوب العقلي والامر بالمرجوح العقلي بكلا نوعيهما وأما البواقي فمحتملة وإن كان قضية ما قررنا وقوع بعضها حجة القول بالملازمة أمور الأول الضرورة قال بعض المعاصرين معنى كون ما يستقل به العقل دليل حكم الشرع هو أنه كما أنه من الواضح أن العقل يستقل بالحكم على بعض الأفعال بأنه حسن بمعنى أن فاعله يستحق المدح من حيث كونه فاعله ومنها ما هو قبيح بمعنى أن فاعله يستحق الذم من حيث إن فاعله كذلك من الواضح أن العقل يستقل بالحكم على بعض الأفعال بأنه مما ألزم الله عباده بفعله ولا يرضى بتركه كرد الوديعة وعلى بعضها بأنه مما ألزم الله بتركه ولا يرضى بفعله كالظلم فظهر أن استقلال العقل بكل من الامرين أمر واضح هذا محصل كلامه وليس بيانه على ما ينبغي لقصوره عن إفادة الملازمة ووضوحها كما هو المدعى وإنما مفاده وضوح الحكم بكل من الامرين على ما يقتضيه العنوان بل الوجه أن يقال كما أنه من الواضح أن العقل يستقل بالحكم على بعض الأفعال بأنه حسن أو قبيح عقلا كذلك من الواضح أنه يستقل بالحكم على ما هو حسن عنده أنه حسن عند الشارع ومطلوب له وما هو قبيح عنده أنه قبيح عند الشارع ومبغوض له وهذا كما ترى إنما يقتضي وضوح الملازمة عند العقل وهو واف بإثبات المطلوب إن تم والجواب عنه واضح مما مر لأنا لا نسلم أن العقل يدرك موافقة حكم الشارع و تكليفه لما أدركه من جهات الفعل مطلقا بل من حيث يدرك انتفاء ما يمنع منه في نفس التكليف ولو إجمالا كما سبق وادعاء الضرورة على خلاف ذلك غير مسموع نعم ينهض ذلك دليلا في مقابلة من أنكر دلالة العقل رأسا الثاني إجماع علمائنا الامامية بل وغيرهم أيضا من أكثر فرق الاسلام وسائر أرباب المذاهب والأديان على أن من جملة أدلة الاحكام العقل ولهذا تراهم يقسمون الاحكام إلى ما يستقل بإثباته العقل وما لا يستقل ويمثلون للقسم الأول بوجوب قضاء الدين ورد الوديعة وحرمة الظلم و غير ذلك ويدل عليه أيضا قولهم في الكتب الكلامية بوجوب اللطف على الله تعالى حيث فسروا اللطف بما يقرب من الطاعة ويبعد عن المعصية وجعلوا منها إرسال الرسل وإنزال الكتب وتبليغ الاحكام فلو لا قولهم بثبوت بعض الأحكام مع قطع النظر عن الشرع لم يستقم جعل تلك الأمور من باب اللطف بالمعنى الذي ذكروه إذ لا طاعة ولا معصية حينئذ حتى يصدق عليها أنها مقربة إليها أو مبعدة عنها وعلى تقدير ثبوته بدونه لا يكون إلا بطريق العقل وهو المقصود والجواب أن هذا البيان لا يقتضي قيام الاجماع على ثبوت الملازمة وإنما يقتضي قيامه على إدراك العقل لبعض الاحكام وهذا مما لا نزاع لنا فيه كما تبين من بياننا المتقدم نعم ينهض ذلك حجة على من أنكر دلالة العقل رأسا الثالث لا ريب في أن العقل بفطرية مجبول على استحباب ما أدرك حسنه والالزام بفعله واستكراه ما أدرك قبحه والالزام بتركه وليس ذلك لخصوصية في ذات العقل بل ذلك شأن كل من انكشف له الواقع حق الانكشاف وأدرك الأشياء على ما هي عليه في نفس الامر وتنزه عن الاغراض والدواعي الفاسدة واستقام ذاته وفطرته وعلى هذا فمتى أدرك العقل حسن شئ أدرك علم الشارع به و
(٣٤٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 335 336 337 338 339 340 341 342 343 344 345 ... » »»